خلاصة الخبر أن نيابة طنطا تجرى تحقيقات وصفت بأنها موسعة في تبادل الاتهامات بين ضابط شرطة وحلاق يعمل في جهة سيادية عليا باعتداء كل منهما على الآخر بالضرب في كمين ليلي.
وكانت قوات الشرطة قد نصبت كمينا فجر السبت الماضي «٦/١٨» عندما استوقف الضابط الذي هو معاون مباحث قسم ثان طنطا مواطنا لسؤاله عن هويته التي رفض الرجل إبرازها بدعوى أنه حلاق يعمل في جهة سيادية عليا.
إلا أن الضابط أصر على مطلبه وصاحبنا أصر على رفضه،
فنشبت مشادة بين الطرفين تبادل الاثنان اللكمات خلالها،
الأمر الذي أدى لإصابة الضابط بكسر في أنفه وتم نقله إلى المستشفى لعلاجه،
وتم ضبط الحلاق الذي ذكر في التحقيق أنه يعمل لدى الجهة العليا.
وأنه تعرض للاعتداء من قبل الضابط ومعاونيه، فأحيل إلى النيابة للتحقيق.
الخبر نشره موقع جريدة «الشروق» في اليوم ذاته وحين لفت انتباهي فإنني احتفظت به وانتظرت متابعته خلال الأيام التالية بالتأكيد أو التصويب أو النفي، لكنني لم أعثر على شيء من ذلك.
لذلك رجحت أن يكون صحيحا وأنه تم احتواء الموضوع نظرا لحساسية موقف الطرفين وحرصا على الحفاظ على علاقات المودة المفترضة بينهما.
لم أستغرب أن يشتبك مواطن مع ضابط شرطة،
فذلك أمر عادي يحدث كل يوم، ولكن حين يلكم المواطن الضابط بحيث يكسر أنفسه فذلك أمر غير مألوف، لأن العكس هو المعتاد.
وحين يحدث ذلك فإنه لا يفسر إلا بأحد احتمالين،
أولهما أن يكون الطرف الآخر يتمتع بقوة جسدية غير عادية
وثانيهما أن يتمتع المعتدى بمكانة استثنائية رفيعة مسلحة بجرأة جعلته يقدم على ما فعله،
ويبدو أن صاحبنا من ذلك الصنف الأخير لأن انتسابه إلى الجهة السيادية وفر له تلك المكانة بما تستصحبه من جرأة.
وهو ما قد أفهمه حين يكون الرجل ضابطا أو مسؤولا في الجهة السيادية، إلا أنني لم أكن أعرف أن الحرفيين الذين يتعاملون مع الجهات السيادية لهم نفس الحصانة والقوة.
فضلا عن أنه لا يخطر على بال أمثالي أن تضم الجهات حلاقا أو سباكا أو ترزيا أو نقاشا.
لست أقلل من شأن المنتسبين إلى تلك الحرف بطبيعة الحال،
لكنني فقط استغرب تصنيف المشتغلين منهم مع أفراد الجهات السيادية باعتبارهم يملكون حصانات العاملين في تلك الأجهزة، التي أرجو ألا تكون الضبطية القضائية بينها.
إذا صحت معلومات الخبر فهي تعني أن الحلاق المذكور اعتبر نفسه مواطنا متميزا لا يحق لضابط الشرطة أن يسأله عن هويته،
واستنكف أن يصر الضابط على ذلك حين التقاه في الشارع ساعة الفجر، فاشتبك معه ولكمه في وجهه حتى كسر أنفسه،
وهو ما أثار عندي السؤال التالي إذا كان ذلك شعور وسلوك حلاق الجهة السيادية، إزاء ضابط الشرطة فكيف يكون تصرفه مع المواطن العادي؟
ثم ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الحلاق كان ضابطا في الجهاز السيادي؟
لا يغير من السؤال أو يقلل من شأنه أن يقول قائل بأن ما جرى مجرد سلوك فردي يتعذر تعميمه أو التعويل،
لأنني أزعم بأن الرجل وإن كان فردا إلا أنه ما كان له أن يقدم على فعلته إلا إذا كان مقتنعا بأن المنتسبين إلى الجهات السيادية من طينة أخرى تجعلهم أرفع مقاما من غيرهم.
واقتناعه الشخصي هذا جزء من ثقافة سائدة أرست ذلك المفهوم وعممته.
الواقعة تجدد السؤال الذي لا تعرف له إجابة حول دلالة المصطلح وماهية تلك الأجهزة السيادية التي أصبحت بمثابة قوة غامضة برزت في مصر خلال السنوات الأخيرة.
وصار لها نفوذها وكلمتها في التقدير والتوجيه، حتى أصبحت مصدرا معتمدا لإذاعة أخبار تنشرها الصحف وكأنها وكالة أنباء محلية.
ليس ذلك فحسب وإنما أصبح لها ذاتها المصون وحرمها الذي لا يجوز المساس به.
حتى صار معلوما أن رئيس جهاز المحاسبات المستشار هشام جنينة تمت الإطاحة به لأنه داس لها على طرف،
ووقع في المحظور حين سمح لجهازه أن يفتش في أوراق الأجهزة السيادية ويرصد مخالفاتها.
أفهم أنه حين تموت السياسة فإن القرار يصبح أمنيا بالدرجة الأولى، الأمر الذي يؤدى إلى تضخم دور الأجهزة الأمنية وتغولها في مختلف المجالات.
ويبدو أن التضخم بلغ ذروته حتى طال حلاق الجهات السيادية، الأمر الذي يولد شعورا مبررا بالقلق والخوف، لا على أشخاص فحسب، ولكن مسار الوطن ومستقبله.
لا أحد يجادل في أهمية وضرورة الأجهزة الأمنية، التي تمنينا أن تعمل في النور وفي ظل القانون والدستور،
لكن حالة الغموض التي باتت تحيط بها تفتح الباب لمزالق وشرور كثيرة تسحب من رصيد دولة الحق والعدل، وتؤسس لدولة الأمن التي ظننا أن ثورة يناير انطلقت للخلاص منها
ثم اكتشفنا أنها عادت أكثر قوة، ليس بعناصرها فقط ولكن بحلاقها أيضا!