السياسة تهزم الأيديولوجيا

طلال عوكل
حجم الخط
أجدني مختلفاً مع كل من نظر إلى الاتفاق التركي الإسرائيلي على أنه شكل من أشكال الخيانة وعدم الوفاء، والتخلي عن دعم الحقوق الفلسطينية من جانب تركيا. ربما كان من المنطقي أن تعبر الفصائل الفلسطينية عن رفضها لأي تطبيع تقدم عليه دولة عربية أو إسلامية مع الاحتلال الإسرائيلي، لأن منطق حماية القضية الفلسطينية يقتضي رفض أي فعل من دولة شقيقة أو صديقة، يشكل دعماً لدولة الاحتلال وحتى لا يكون مثل هذا الفعل سابقة، ومقدمة لانهيار مواقف المزيد من الأشقاء والأصدقاء وبعضهم ينتظر الفرصة والمبرر. كما يفعل كل وطني حريص على مصالح بلاده، من حق تركيا أن تعطي الأولوية لمصالحها الخاصة، وقد فعلت حتى لو أنها اضطرت للتخلي عن شرطها الأثير برفع الحصار عن قطاع غزة.
تركيا تقدم النموذج الذي يفترض أن تحتذيه حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية في المحيط الإسلامي الأوسع، فهي تفصل بين الدين والسياسة. الحزب القائد حزب إسلامي ويمارس دعوته في المجتمع التركي على هذا الأساس، لكن الدولة لا تزال ملتزمة بالدستور القديم، وحين يتعارض الدين مع السياسة ومصالح الدولة فإن الأولوية للسياسة والمصالح وليس للبعد العقائدي.
قبل ست سنوات كانت السياسة التركية تتفاخر بـ «صفر مشاكل وأزمات» وكان في حينها الصعود إلى أعلى الشجرة، أمراً مقبولاً في السياسة، لكن تركيا اليوم المحملة بالكثير من الأزمات والمشاكل، لا تستطيع البقاء فوق الشجرة، فيما تتكاثر الأزمات من حولها وفي داخلها لأن ذلك سيعرض الدولة والحزب للكثير من المخاطر والخسائر. وفي الأساس لم تدع تركيا أنها قائدة الثورة الإسلامية وحامية حمى القضية الفلسطينية، فهي دولة اعترفت بإسرائيل مبكراً وهي دولة عضو في حلف الناتو إلى جانب إسرائيل العضو من خارج اطار الناتو، وهي أيضاً دولة تسعى منذ عقود للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وبالنسبة للقضية الفلسطينية تركيا لا تزال ملتزمة بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني كما أقرتها الشرعية الدولية وتسعى لتحقيقها منظمة التحرير الفلسطينية، وسنجدها تناصر هذه الحقوق في كل المحافل الدولية والإقليمية.
تركيا تقيم علاقة خاصة بحركة حماس وجماعات الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي من خلال الحزب، لكن الدولة التركية تقيم علاقات رسمية مع منظمة التحرير الفلسطينية ودولة فلسطين، وتبدي تعاوناً جيداً وإيجابياً. لقد بذلت تركيا الدولة جهداً كبيراً من أجل رفع الحصار عن قطاع غزة، أو التخفيف من معانيات سكانه، وبذلت جهداً كبيراً لرأب الصدع بين أطراف الانقسام الفلسطيني، لكنها لم تنجح مثلها مثل غيرها.
تركيا أدانت جرائم الحرب الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، ورفعت الصوت عالياً في كل مرة، وهي لم تتوقف عن تقديم ما تستطيع من مساعدات للشعب الفلسطيني.
بصراحة أنا لا أجدني مكلفاً أو ملزماً بالدفاع عن سياسة الدولة التركية وحزبها الحاكم، لكنني أفعل ذلك بدافع الوطنية الفلسطينية التي ترى بأن الواجب الوطني يقتضي من الفلسطينيين أن يبحثوا عن مصالحهم وما ينفع قضيتهم كأولوية، فإن لم يفعلوا ذلك فإنه ليس من حقهم أن ينكروا ذلك على الغير.
من حقنا أن نبدي استياءنا من أي عمل يخدم الاحتلال أو يفرج عنه، أو يخفف من عزلته، ولكن علينا أن ننظر إلى المرآة. كانت حركة حماس وهي اليوم تعرف بأن تركيا الرسمية تؤيد وتدعم العملية السلمية، وأنها ترغب في أن تجد حركة حماس وهي تنخرط في هذه العملية كجزء من النظام السياسي الرسمي، تماماً مثلما تعرف حماس أن قطر التي تقيم معها علاقات جيدة وتقدم للشعب الفلسطيني دعماً مشكوراً هي الأخرى تقيم علاقة مع إسرائيل وتتمنى لو أن حركة حماس تتخذ قراراً بالانخراط في العملية السياسية.
تعرف حماس ذلك، ولكنها تقيم مع هاتين الدولتين أفضل العلاقات، ما يعني أن أحداً لم يخدع أحدا، وبالتالي لا مجال للمفاجأة ولا مجال للعتب، أما ان وقعت خيبة أمل فهي تخص من راهن على تحقيق إنجاز لا تسمح السياسة وأولوية المصالح الوطنية بإنجازه.
في هذا الإطار علينا أن نلاحظ الرسالة التي أطلقها من غزة الأمين العام للأمم المتحدة، الذي لم تترك زياراته الأربع للقطاع أي أثر. بان كي مون دعا لتشكيل حكومة وحدة وطنية ملتزمة بالبرنامج السياسي لمنظمة التحرير. الرسالة موجهة من رأس الشرعية الدولية الى حركة حماس، ويستهدف من ورائها تحضير الساحة الفلسطينية للانخراط الكلي في المبادرة الفرنسية التي تحولت إلى مبادرة دولية.
لا تختلف رسالة كي مون بالمضمون مع ما يسعى إليه أصدقاء حركة حماس الأتراك والقطريون، وقد فهمت حماس الرسالة وعبرت عن رفضها لها، من خلال تصريح لنائب رئيس المجلس التشريعي الدكتور أحمد بحر.
وفي الواقع فإن الخطوة التركية نحو إسرائيل تنطوي على مراجعة للسياسة الخارجية تستهدف تخفيف الأزمات، ذلك أنها تتزامن مع خطوة تجاه روسيا، وأخرى تجاه مصر، وهنا تكمن العبرة، حيث يفترض أن يولي الفلسطينيون اهتماماً بأنفسهم والسبيل إلى ذلك المصالحة.