هناك، في الأمريكتين وأوروبا وإفريقيا، تمرد واسع على أفراد السلطة الحاكمة. لا أظن أن النخب الحاكمة تعرضت لمظاهر وسلوكيات غضب عام مثل ما تتعرض له هذه الأيام. رأينا التمرد صارخاً وفاعلاً في صوره الشعبية التي حصل عليها، بأشكال مختلفة، كل من دونالد ترامب وبيرني ساندرز في حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية، لمجرد أن الرجلين عبرا بصور متباينة عن الشعور السائد لدى قطاعات أمريكية واسعة بكراهية الرجل العادي للطبقة الحاكمة التي تمثلها قيادات الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وغضب شديد على قيادات مؤسسات المال كالمصارف والشركات المالية العظمى المتحكمة في اقتصاد أمريكا ونظام الحكم فيها.
رأينا التمرد واضحاً أيضاً وبالغ التأثير في تطور أحداث الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، غضب في إنجلترا جسده الانقسام المثير داخل حزبي المحافظين والعمال على «قصة الخروج»، وجسده بشكل أكثر وضوحاً الاستقطاب الوطني على قضية جوهرية تمس عديد المعتقدات السياسية للشعب البريطاني. نراه في الشرق الأوسط لا يحتاج إلى شرح أو تبرير. لقد كانت ثورات الربيع في حد ذاتها، وما تزال، تعبيراً عن غضب شعبي عارم على طبقة حاكمة ترفض أن تتغير أو أن تستجيب لحاجة الشعوب إلى الحرية والمساواة والعدالة والكرامة. وهي الدليل الأقوى على أن الشعوب ما تزال تلح على ضرورة التغيير رغم الصعاب والمعاناة التي واجهتها منذ نشوب ثوراتها.
المثير والمفيد فيما رأيناه على امتداد خمس سنوات هي عمر ثورات «الربيع العربي» ونراه الآن في أروع تجلياته في الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وأوروبا الغربية، هو كيف أن الشعوب قررت أخيراً أن العولمة لم تكن لمصلحتها كما ادعت الشركات متعدية الجنسية والطبقات الحاكمة، أو بمعنى أدق اكتشفت أن نصيبها من العائد السلبي للعولمة كان أكبر بكثير من نصيبها من العائد الإيجابي، وهو العائد الذي راح أغلبه إلى خزائن ومصالح المصارف والمؤسسات الدولية والشركات الكبرى، ومنها إلى جيوب أفراد الطبقة الحاكمة وحساباتهم البنكية.
لو عاش اللورد آكتون في يومنا هذا لما قال بأفضل من عبارته الشهيرة عن الفساد «السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة». يقول ماثيو سويف في حديث له ببرنامج التفكير الحر بالإذاعة البريطانية، إن آكتون نطق بهذه العبارة بمناسبة رغبة المنافقين المحيطين بالسلطة البابوية «تفصيل» قانون يحمي البابوات ويحصنهم لأنهم «لا يخطئون».
لاحظ الدارسون مثلاً أن السيارات الفارهة أو الغالية الثمن أو التي تحمل علامة «ماركات» شهيرة لا تهتم بالمارة في الشوارع. راقبوا تصرفات سائقيها عند مفترقات الطرق فتجدوا أن أغلبها لا يقف للمارة على عكس أصحاب السيارات المتواضعة. وفي أحيان كثيرة كان قادة هذه السيارات يتجاهلون المارة ولا يهتمون بهم ويتعمدون النظر نحو جهة أخرى غير الجهة التي يقف فيها عامة الناس الراغبين في «تعدية» الشارع أو تجاوز حالة الانحشار في زحمة الطريق.
ذكرتني هذه الدراسة الميدانية، وغيرها مما سيأتي ذكره لاحقاً، بالكتاب الرائع الصادر في سنوات الستينات لعالم الاجتماع السياسي «سي رايت ميلز» تحت عنوان نخبة القوة أو السلطة، وهو الكتاب الذي أطلق العنان لعلماء عديدين لدراسة أصول الطبقة الحاكمة في أي مجتمع سياسي. يقول: رأيت أن الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة قامت على ائتلاف يضم ممثلي النخب العسكرية والسياسية والمالية في المجتمع الأمريكي. لعب الكتاب كذلك دور الباب الذي دخل منه كثيرون لإثبات أن هذا النوع من الائتلافات الحاكمة هو الطريق الأسرع للنازية والفاشية، بحكم أن النازية وغيرها من نظم الاستبداد قامت وتقوم على أكتاف ائتلافات مماثلة.
يعود الفضل لعالم الاجتماع أيوجين في دراسته لأكثر من مئة وستين من رجال الأعمال والمديرين والقادة السياسيين في اكتشاف أن هؤلاء القادة من رجال السلطة والنفوذ يعتقدون أن الحرص على إقامة صداقات والمحافظة عليها دليل ضعف، وينصحون بأنه لا يجوز اختيار رجل سلطة أو حكم يؤمن بالصداقات ويحبذها أو يكثر منها. اكتشف أيضاً أن معظم القادة يقدمون المصلحة الشخصية على المصلحة العامة في حال تعارضتا. في دراسة ميدانية أجراها Keltnerالأستاذ بجامعة بيركلي على مجموعة من قادة السياسة والإدارة وجد أن إنتاج الفرد منهم يقل إذا شارك في عمل جماعي، ومهاراته في الخلق والإبداع تنحسر. أما السبب، حسب خلاصة الدراسة، فهو أنه إذا عمل ضمن جماعة فسوف يهتم أكثر شيء بالبحث عن موقع قيادة وسلطة يفرض منه زعامته على الجماعة.
أغلب الدراسات الميدانية الصادرة عن جامعة بيركلي تؤكد أن الفقراء أو الأقل حظاً أكثر عطاء ورغبة في التطوع والعمل الخيري، وتؤكد أيضا أن أهل السلطة يعتقدون أن الفقراء أقل ذكاء منهم. وقد تحمس علماء اجتماع ألمان لإجراء دراسات تثبت عكس ما توصل إليه الأكاديميون ذوو التوجهات النيو ليبرالية، مثل أن الأغنياء هم الأكثر عطاءً واستعداداً للتطوع. سقطت أكثر هذه الدراسات تحت أول امتحان للإحصاءات والمناهج الأكاديمية التي اعتمدت عليها، ثم سقطت سقوطاً مدوياً تحت اكتساح توماس بيكيتي وجيل من الاقتصاديين الجدد لساحات البحث في القضايا الناتجة عن اتساع فجوة اللامساواة وفي صدارتها قضية الفساد، وبخاصة فساد النخبة الحاكمة. فسادها، كما نعلم الآن وبثقة كاملة، ناتج عن سوء توزيع للثروة وعلاجه عدالة اجتماعية عاقلة وموازنة، ناتج أيضاً عن سوء توزيع الحق في المشاركة السياسية، أي في السلطة، وعلاجه ديمقراطية حقيقية وحريات أوفر، وكلاهما كان وما يزال من مطالب ثورة الربيع الذي، وفي ضوء تطورات حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية وقصة الخروج البريطاني وانتفاضة القوميين الأوروبيين وفوضى الحكم الضاربة أطنابها في أمريكا اللاتينية، لم يعد ربيعاً عربياً صرفاً.
عن الخليج الاماراتية
"حماس" تدعو السلطة وقيادتها إلى إنهاء ظواهر الاعتقال السياسي
05 أكتوبر 2023