إنه تساؤل مشروع حول الدور الإقليمي لمصر بعد أحداث «الربيع العربي»، وكيف تأثر هذا الدور بتلك الأحداث على نحو أدى إلى تراجعه في السنوات الأخيرة. ولا بد أن نسجل هنا أمانة أن ذلك الدور كان بدأ بالتراجع خلال العقود الأخيرة بصورة واضحة، وقد أسهم في ذلك أمران، أولهما نكسة يونيو 1967، وثانيهما اختلاف العرب حول تقييم سياسات (كامب ديفيد) حتى وصل بهم الأمر إلى حد تخفيض التمثيل الدبلوماسي مع مصر طوال عقد الثمانينات من القرن الماضي، منذ انعقدت القمة العربية في بغداد، حيث جرى نقل جامعة الدول العربية من مقرها التاريخي في القاهرة إلى تونس، ثم عاد العرب إلى مصر، وعادت هي أيضاً إليهم من دون أن تغير سطرًا واحدًا من التزاماتها التعاقدية مع الدولة العبرية. وهنا لا بد أن نسجل أيضاً أن هزيمة 1967 قد نالت من هيبة الدولة المصرية، ولكنها لم تقلل كثيراً من دورها الإقليمي، فقد رأى فيها العرب وغير العرب نموذجاً للوطن الذي يقف على قدميه رغم أن جراحه تنزف، بل ويحمل السلاح في بسالة لاسترداد أرضه وانتزاع النصر.
فمصر كانت دائماً قائدة في الحرب، ثم أصبحت رائدة في السلام، وقد حاول مبارك بعد رحيل السادات أن يحدث توازناً في علاقات مصر مع أشقائها العرب، ولكن دوره كان انسحابياً من كثير من المشكلات العربية والصراعات الإقليمية، بدعوى التركيز على بناء الداخل، والادعاء بتقوية مصر حتى تكون أهلاً لدورها الذي مارسته في محطات مشهودة من تاريخها الطويل. إلا أن انطلاقة الشرارة من تونس واشتعال الموقف في ميدان التحرير بالقاهرة، قد غير مسار الأحداث، ووضعنا أمام متغيرات جديدة لم تكن في الحسبان بهذه الدرجة، ولعلنا نرصد هنا بعض الملاحظات الأساسية حول الدور الإقليمي لمصر، ثم الأثر الذي تركته أحداث الربيع العربي في ذلك الدور، ونميز من بينها الحقائق الآتية:
أولًا: لعبت القوتان - الخشنة والناعمة - دورهما في تحديد الدور الإقليمي لمصر خلال القرنين الماضيين، بدءاً من دولة محمد علي التوسعية، وصولاً إلى دولة جمال عبد الناصر القومية، حتى تأثرت المنطقة سلباً وإيجاباً بالسياسات المصرية، بل وبالأوضاع الداخلية أيضاً في ذلك البلد المركزي المحوري المهم، وعندما يتساءل العرب الآن.. مصر إلى أين؟ وقد حكى لي الكاتب الراحل الأستاذ هيكل أنه كان يلتقي مسؤولاً جزائرياً كبيراً يأتي إلى مصر كل عام، وقد سأله الأستاذ هيكل عن دوافع هذه الزيارة المنتظمة، فقال له السياسي الجزائري: إنني أسعى بذلك لأرى المستقبل في بلادي، فمصر مرآة نرى فيها ما سوف نكون عليه بعد سنوات، فالمصير واحد، والمستقبل في بلادي مشترك وتلك معطاة تاريخية يصعب الجدال فيها. إن الجيش المصري هو صاحب المعارك الظافرة في حطين، وعين جالوت، وحرب 1973، وهو صاحب الفتوحات المشهودة يوم أن وصلت جيوش محمد علي وابنه إبراهيم إلى هضبة الأناضول والشام والحجاز، وامتدت من منابع النيل جنوبًا إلى جزيرة قبرص شمالًا، وهي أيضاً مصر مصدر القوى الناعمة من تعليم ،وثقافة وفكر، وأدب، وفن، خرجت منها الأفكار الكبرى والاتجاهات المؤثرة في مسار المنطقة كلها. هي مصر الأزهر والكنيسة، مصر الجامعات والمراكز البحثية، مصر الآثار الشامخة والمتاحف الفريدة.
ثانيًا: إن التجربتين الكبيرتين لخروج مصر عن حدودها الأصلية في عهد المؤسس محمد علي، والمحرر جمال عبدالناصر، مازالتا تلعبان دورًا يتحكم في المزاج المصري، بل والعقل أيضًا، حتى أصبح لدينا تصور مغلوط يجعل من حرب اليمن في ستينات القرن الماضي مرجعية وحيدة تطفو على السطح، كلما تحدثنا عن ضرورة تفعيل الدور الإقليمي لمصر، وينسى المعترضون أن مصر بمكوناتها التاريخية وأوضاعها الجغرافية لا يمكن أن تكون دولة منغلقة عل نفسها منكفئة على ذاتها، بل لابد لها دائماً أن تمتد عبر حدودها تتطلع إلى الخارج تؤثر فيه وتتأثر به. ولأضرب بذلك مثالين. فالإسلام السياسي الذي ولد في مصر عام 1928 لا يزال يؤثر في العالمين العربي والإسلامي حتى اليوم، نتيجة الاشتباك المعقد بين الدين والسياسة، والمثال الثاني هو سياسات الرئيس الراحل أنور السادات صاحب الرؤية التي اتخذت من منظور واحد استشرافها للمستقبل، فكان تأثير سياسات (كامب ديفيد) - بغض النظر عن ما لها وما عليها - كبيراً في المنطقة كلها، ومستقبل الصراع مع «إسرائيل» برمته، فمصر صانعة الأحداث ولا بد لها من اشتباك سياسي مستمر، ودبلوماسي متواصل مع القوى الإقليمية الأخرى، بدءًا من إيران، مروراً بتركيا، وصولًا إلى «إسرائيل»، مع أهمية خاصة لمنطقة القرن الإفريقي ودول منابع النيل، فالدور الإقليمي لمصر حقيقة تاريخية يستحيل التشكيك فيها ويصعب التخلي عنها.
ثالثًا: عندما أوفد محمد علي بعثاته إلى أوروبا، وعاد أزهري مستنير هو رفاعة الطهطاوي - التلميذ المباشر للشيخ حسن العطار - حاملًا شعلة التنوير معجباً بالنمط الغربي في المجتمع الفرنسي الذي يخلو من الكذب والنفاق، ويقوم على الأمانة والصدق، ويعطي كل ذي حق حقه، فانبهر به رجل الدين الأزهري، حتى ردد من بعده بعشرات السنين الأمام المصري المجدد محمد عبده عبارته الشهيرة (لقد تركت في مصر مسلمين بغير إسلام، ووجدت في فرنسا إسلامًا بغير مسلمين)، وعندما نتجول بين العواصم العربية نشعر بأن روح الشقيقة الكبرى موجودة لدى معظمهم، استفادة من تجاربها، ومحاكاة لإنجازاتها، وتجنبًا لأخطائها.
بعد هذه الملاحظات نؤكد أن الربيع العربي لم يكن بالضرورة إضافة لدور مصر القومي، ولكنه كان تأكيداً لروحها المتجددة وحيوية شعبها النابض، وقدرة الرأي العام المصري على التأثير الواسع، لا في إقليمها وحده، ولكن في العالم كله.
عن الخليج الاماراتية