مأساة أمريكا الكبرى، خوضها صراعًا مريرًا وعنيفًا بين إفراطين بغيضين يجران عليها الويلات والنكبات المتوالية، ويجعلانها تبدو فى نظر الكثيرين وكأنها على شفا حرب أهلية تعصف بكيان المجتمع وتشقه إلى نصفين متخاصمين يتبادلان اقامة الاسوار العازلة فيما بينهما، فهى بين افراط الكراهية والعنصرية، وافراط القوة، والأخير على وجه التحديد له تجلياته وانعكاساته البادية بوضوح فى سياسات واشنطن الخارجية، وقادتها لاستباحة سيادة دول، مما أدى إلى دخول تلك الدول نفق الفوضى والاقتتال المظلم، وأفرزت أحقادًا، وعداوات، ورغبات فى الثأر والانتقام، وجماعات إرهابية، ويكفيك استرجاع ما قاسته ـ ولا تزال ـ أفغانستان، والعراق، وسوريا، وليبيا كنماذج شاهدة دالة على ما سبق.
عقدة افراط الكراهية والعنصرية كانت حاضرة وشاخصة فى جريمة دالاس المزدوجة، فالشرطة مارست عادتها الذميمة القبيحة بتجاوزاتها العنصرية بقتلها مواطنين اسودين بدم بارد، وتوارت قيمة وقدسية حياة البشر وآدميتهم، لتستبدل بالاستعلاء والنظرة الدونية للآخر، وهو ما أجج نيران المظاهرات الغاضبة الرافضة « لعنصرية الشرطة» وما استتبع ذلك من أحداث مروعة أسفرت عن مقتل عدد من أفراد الشرطة على يد قناصة بمجتمع تشبع بمفاهيم القوة والاحتكام للسلاح.
وبنظرة محايدة مقطوعة الصلة بنبرة وحملة الشماتة والتشفى التى سادت بين قطاعات وشرائح من العرب والمسلمين، بعد ما وقع فى دالاس، فإن الفعل بغيض، ورد الفعل أبغض، وهما مرفوضان جملة وتفصيلا، ولا محيص عن التنديد بهما بأشد وأعنف العبارات، فالمبدأ كل غير قابل للتجزئة. إن أمريكا الراعية والمبشرة بحقوق الانسان والحريات فى العالم، وتعاير الآخرين بالفشل فى استيفاء شروطها ومتطلباتها، وتتخذها ذريعة للتدخل فى الشئون الداخلية لبلدان شتي، لم تستطع أن تقدم ما يؤكد اكتراث جهازها الأمنى بضوابط ومعايير حقوق الانسان التى كثيرا ما ضغطت بها على شعوب وأنظمة فى قارات المعمورة، ودللت أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأنها تجنى الثمار المرة لاعلائها سيف القوة، وأن حملة «حياة السود مهمة» تضعها فى مأزق رهيب على المستويين الداخلى والخارجي. فقد حصدت الولايات المتحدة ثمار الكراهية والغضب، وظهر أن هناك مسافات بعيدة تفصلها عن كونها حقا «دولة مواطنة» ولذلك كانت صدمتها عنيفة، عندما باتت الشرطة هدفا ثابتا للغاضبين، وأن تكون تجربتها الداخلية حافزا لها لتفهم ما يعتصر قلوب ضحايا غزواتها وسياساتها. وعلى نفس منوال حملة «حياة السود مهمة» فمن حق العراقيين أن يبدأوا حملة «حياة العراقيين مهمة» وكذلك السوريون، والأفغان، والليبيون، والفلسطينيون الذين تحرمهم إسرائيل من أبسط وأقل حقوقهم كشعب سلبت منه أرضه وحريته، ويحق لهذه الشعوب المظلومة مطالبة السلطات الأمريكية بالاعتراف بما ارتكبوه فى حقهم من خطايا سيجبرون على دفع فاتورتها الباهظة لعقود متتالية، أهمها نسف التجانس والوئام بين مكونات وطوائف البلدان السابقة عن عمد، وتحويلها لفصائل متناحرة يتربص بعضها بالبعض. إن من قصم ظهر العراق هم الأمريكيون الذين لعبوا على الوتر الطائفى بين السنة والشيعة، وتسبب فى تحصن كل طائفة فى خندقها بانتظار اللحظة المناسبة للانقضاض على الأخرى للقضاء عليها، واقتلاعها من النسيج الوطني، فالقضية أضحت مسألة وجود من عدمه، وكان من الطبيعى مع هذه الأجواء أن يعلو الدينى على الوطني، وأن تنشط القاعدة صنيعة المخابرات المركزية الأمريكية، ومعها تنظيم داعش الإرهابي، وأن تكون الأراضى العراقية المحل المختار لصراعات القوى الكبرى والإقليمية، وتصفية حساباتها وخلافاتها، وما أن تكتوى أمريكا ومصالحها بلهيب الغاضبين والكارهين لها فى بلاد الرافدين وخارجه، فإنها تتغافل عن مسئوليتها، وتلقى بالمسئولية على عاتق الإسلام والمسلمين، وتظهر فى ثوب الحمل الوديع البرئ الباحث عن التعاطف والمواساة.
وتبقى كلمة أخيرة بخصوص التوتر التابع لهجوم دالاس وتخص أسلوب استقبال وتعاطى العرب والمسلمين معه، إذ غلب عليه بعض الشماتة، فبرزت دعوات للتضامن مع الأمريكيين السود عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وتصدر هاشتاج «أخى الأسود أنا أحبك» القائمة وأصبح الأكثر انتشارا فى بلدان عربية كثيرة بالآف التغريدات التى تدين اضطهاد السود، والعنصرية الأمريكية، وذاك لا غبار عليه. لكن الخيال جمح وشطح ببعض المعلقين المصريين والعرب بحديثهم عن ارهاصات «ثورة الربيع» فى الولايات المتحدة، والشواهد المؤكدة لها، مثل المظاهرات العارمة، والانفلات الأمني، والمطالبة بتطهير جهاز الشرطة، وبدا للقراء وللمشاهدين وكأن النسخة الأمريكية من وزير داخليتنا الأسبق حبيب العادلى يقود الشرطة الأمريكية، وأن الأمريكيين فاض بهم الكيل من تجاوزات رجاله، وأنه لا مهرب من الثورة عليه.
وغاب عمَن تبنى هذه النظريات غير الحصيفة أن العرب والمسلمين ليسوا بريئين ولا منزهين من العنصرية، فنحن لسنا ملائكة اطهارا، وأن المجتمع الأمريكى رغم كل سوءاته لديه ميزة المكاشفة بالعيوب وعدم اخفائها تحت السجادة إلى أن تستفحل وتشتد اخطارها، مثلما نفعل، وتطويره الآليات اللازمة لتصحيحها وعلاجها، وأن الأدوات الرقابية تعمل بكفاءة عالية فى جميع المؤسسات بما فيها الأمنية، وأن الحساب العسير بانتظار المخطئ، وأنه لا احد فوق المحاسبة والعقاب مهما علا شأنهِ ووضعه.
عن الاهرام