رغم أن الاتفاق التركي / الإسرائيلي الذي تم التوصل إليه قبل نحو شهر، والذي أعاد العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها التي كانت عليها قبل واقعة "مرمرة" عام 2010، لم يحقق شيئا مهما للجانب الفلسطيني، وتحديدا لحركة حماس، بعد أن كانت أنقرة وعدت غزة بان يكون كسر الحصار شرطا لتطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل، إلا أن حركة حماس قابلت الاتفاق بالترحاب، وهي لم تتعرض له بأية ملاحظة نقدية وحسب، بل إن ردود فعل قادتها والناطقين باسمها، والمحسوبين عليها من المحللين السياسيين والمتابعين الإعلاميين، تباينت بين "متفهم" لما استطاعت أنقرة تحقيقه، وبين مرحب بالاتفاق، بل إن حماس أصدرت بيانا رسميا أشادت فيه بتركيا بعد الاتفاق.
المهم انه يبدو أن تفاهمات إضافية، توصل لها الجانبان، ولم يكن بمقدورهما أن يضمناها الاتفاق، وهذا ما لوحظ عبر ردود الفعل المعارضة أو الشعبية على الجانبين، فأهل الضحايا الأتراك رفضوا الاتفاق، كذلك ذوو المفقودين الإسرائيليين في غزة، سرعان ما تحركوا مطالبين حكومتهم بالاهتمام الجدي بمصير جنديين إسرائيليين لم يتم التأكد بعد إن كانا أسيرين أو جثتين معتقلتين لدى حماس منذ الحرب الإسرائيلية الثالثة على غزة التي جرت قبل عامين، إضافة لمواطن ثالث كان قد ضل طريقه بعد الحرب، ودخل غزة.
صحيح أن الدبلوماسية التركية تتميز بشيء من اللباقة التي تتوافق مع الاعتدال السياسي والديني الذي طبع عليه الأتراك منذ دخلت بلاد الأناضول ومعها بلاد الشام الإسلام، وكانوا أهل ذمة، بعد معركة اليرموك، وتعايشوا مع المسلمين في الشام والأناضول، ومن ثم اتّبعوا مذهب السنة، حيث كانت دمشق عاصمة الدولة الأموية، ما أهّل آل عثمان / الأتراك لأن يتولوا حكم العرب والمسلمين أربعة قرون متواصلة منذ عام 1516 إلى 1917، دون أن ينفر منهم العرب المسلمون / السنة، على عكس ما حدث في بلاد فارس والعراق، لكن من الواضح أن هناك عاملا مساعدا للحكومة التركية / الإسلامية تسهّل عليها سياستها تجاه العرب عموما، وتجاه قطاع غزة خصوصا.
نريد القول بان اتفاق تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، بدلا من أن يضع الحواجز أو المعيقات أمام الدخول التركي لقطاع غزة، فإنه عزز من الوجود التركي في القطاع، لذا فان غزة فتحت أبوابها لقافلة المساعدات التي جاءت عشية عيد الفطر السعيد عبر ميناء أسدود.
ما يؤكد أن الأبواب ما زالت مشرعة أمام تركيا / اردوغان في غزة، هو محاولة مصر سحب البساط من خلال التحرك المكمل أو الموازي أو حتى البديل، للتحرك الدولي ( عبر المبادرة الفرنسية ) غير المقبول على إسرائيل، لكن إسرائيل المدللة، والتي هي أمام خيارات مريحة عديدة، تصد المحاولة المصرية لفتح بوابة التفاوض بين إسرائيل والجانب الفلسطيني الرسمي، بغض النظر عن طبيعة وشكل بداية التفاوض، فضلا عن أهدافه واحتمالات التوصل لنتائج محددة.
لا تبدو تركيا على عجلة من أمرها ولا إسرائيل أيضا، وانه لأمر مريب أن يضلّ مواطن إسرائيلي آخر _ قبل نحو أسبوعين _ طريقه ويقال انه مريض نفسيا هو أيضا، كما قيل في المواطن الأثيوبي الذي دخل غزة قبل اقل قليلا من عامين، حتى يكون هناك فعلا "مادة" لصفقة التبادل، ولاستمرار أن تبقى "حماس" عاملا من عوامل اللعبة السياسية الخاصة بالملف الفلسطيني، وخارج الإطار الرسمي، ثم ظهور الطيران الحربي قبل يومين في سماء غزة _ الأف 16 _ مجددا بعد عامين من الهدوء، يشير أو يشي بان هناك ما يتم ترتيبه بين حماس وإسرائيل عبر تركيا.
مثل هذه الإيحاءات، كثيرا ما أغلقت الأبواب في وجه المصالحة، لأنها عادة ما كانت تقوم بفعل الرفع من معنويات حماس، التي كانت في ظل الضائقة، تفكر جديا في " التسليم " بدفع استحقاقات المصالحة، ونعني بذلك إنهاء الانقسام تماما، وفي إنهاء الانقسام لا مصلحة لإسرائيل، ونظن أيضا لا مصلحة لتركيا، التي تحلم بفرد عباءتها على غزة، دون الضفة والقدس بالطبع، على عكس مصر التي تفضل فرد عباءة السلطة على غزة لضمان الهدوء الأمني وعدم اختراق حدودها الشمالية / الشرقية.
المدخل بعد تدجين حماس في غزة، وإضعاف القسّام، صديق إيران، لصالح الجناح السياسي الموالي للإخوان وتركيا، هو أن يتم إنعاش سلطة حماس في غزة، بتحسين شروط المعيشة، بتوفير الكهرباء، وتحلية المياه، ومنح أهل غزة تأشيرات الدخول لتركيا، التي تقدم نفسها _ الآن _ كأب للسنة العرب، ويظهر ذلك جليا في فتح أبوابها للاجئين العرب / السنة، السوريين والعراقيين، في ظل عجز العرب _ الخليج ومصر والأردن _ عن منح الإقامة والجنسية بسهولة لهؤلاء بالمقارنة مع تركيا. كذلك أن يتم الشروع فعليا في الوقت المناسب بمفاوضات تبادل الأسرى والجثث، ربما حين يحدث فراغ في السلطة الرسمية الفلسطينية، بوساطة تركية !
من الواضح أن "حماس" تصبر الآن _ كما هو حال تركيا _ التي اقتنعت بان الظفر بالنفوذ الإقليمي لن يتم بالضربة القاضية، ولا في وقت قصير منظور أو على عجل، ولا من مدخل واحد، ولعل في مراجعة الموقف تجاه النظام السوري ما يوضح هذا، كذلك حديث حماس عن الدفع بزعيمها خالد مشعل لمنصب رئيس م ت ف، لتبرير خروجه الديمقراطي من قيادة حماس بعد ثلاث ولايات متتابعة، ما يؤكد بأن أطراف صفقة تبادل الأسرى التي يتم طبخها على نار هادئة، ليسوا في عجلة من أمرهم، يجهزون " الطبخة " للحظة يجد فيها الجانب الفلسطيني نفسه أمام لحظة فراغ دستوري / سياسي، تنقضّ فيها "حماس" بمساعدة تركيا وإسرائيل على السلطة دون الحاجة للقيام بانقلاب عسكري في رام الله، كما فعلت قبل عشرة أعوام في غزة !