الانتخابات المحلية نعمة قد تتحول إلى نقمة‎

thumb (15)
حجم الخط

أخيرًا، شهدنا خبرًا مفرحًا تمثّل بالاتفاق على إجراء الانتخابات المحلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد فاجأت "حماس" معظم التوقّعات، ووافقت على إجراء الانتخابات بعد أن أخذت ضمانات من لجنة الانتخابات ممثلة برئيسها حنا ناصر، بأن اللجنة ستقوم بعمل كل ما يلزم لضمان توفير الحريات اللازمة للانتخابات في الضفة والقطاع على حد سواء، وأنها ستتبع نفس المعايير والإجراءات الانتخابية طبقًا للقانون في جميع الهيئات المحلية من دون تمييز، وهذا يعني أن وزارة التربية والتعليم العالي ستوفر مراكز وطواقم الاقتراع، بينما ستؤمن وزارة الداخلية العملية الانتخابية أمنيًا، وستنظر المحاكم المختصة وتبت في القضايا التي ستدرج عليها، والالتزام بالأحكام القضائية الصادرة عنها، دون تحميل هذا الأمر أي دلالات أو إشارات سياسية، وإنما لمتطلبات القانون ولأغراض عملياتية فنية بحتة تتعلق بجوهر عمل اللجنة واختصاصها.
وقد أخذت لجنة الانتخابات على عاتقها هذا الأمر، وأعفت الحكومة من عبء الموافقة مباشرة عليها، على أن تقوم الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة "حماس" بتوفير الأمن للعملية الانتخابية، وأن تعتمد الأحكام الصادرة عن المحاكم التي تعمل في قطاع غزة، وهذا ينطوي عن نوع من الاعتراف بالانقسام من خلال التعامل مع سلطة الأمر الواقع التي تحكم غزة، ومثل هذا الإجراء حدث عند التعامل مع الحج وامتحان التوجيهي وقضايا حياتية واقتصادية متعددة، ومن دونه لا يمكن إجراء انتخابات محلية إلا إذا أجريت بعد وضمن اتفاق شامل على إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، بما يشمل بلورة رؤية، والاتفاق على إستراتيجية سياسية ونضالية قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية وتوظيف الفرص المتاحة، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتوحيد المؤسسات والأجهزة الأمنية والقضاء ...إلخ، إضافة إلى معالجة مختلف ذيول الانقسام وتداعياته.
لقد تغاضت "حماس" عن قيام حكومة الحمد الله بتحديد موعد الانتخابات دون التشاور معها، وعن إجراء الانتخابات ضمن القانون القديم. كما تغاضت حكومة الحمد الله والرئيس و"فتح" عن اتفاق لجنة الانتخابات مع "حماس" على قيام المؤسسات التي تسيطر عليها بتوفير متطلبات العملية الانتخابية، الإدارية والقانونية والأمنية. وهي صفقة متوازنة، وحصيلتها إيجابية، لأنها تتيح للشعب أن يعبر عن إرادته بانتخاب هيئاته المحلية، وهذه نعمة ولكنها قد تتحول إلى نقمة إذا ذهبت السكرة وجاءت الفكرة. كيف ذلك؟
أعطى الرئيس و"فتح" الضوء الأخضر للحكومة لإجراء الانتخابات المحلية على أساس تقدير غالب بأن "حماس" لن تسمح بإجراء الانتخابات في قطاع غزة، ولن تشارك فيها، أو تشارك بصورة غير رسمية في الضفة.
والآن، بعد قرار "حماس" "المفاجئ" بالمشاركة ستعيد "فتح" حساباتها، لا سيما أنّها تعاني من خلافات في صفوفها، أبرزها فصل محمد دحلان وما تشكّله جماعته من تحدٍ لقوائم "فتح"، وتحديدًا في غزة، ومن خلافات مع شخصيات مقربة منها في عدة مناطق، وخصوصًا في المدن الكبرى، وفي نابلس على وجه التحديد، حيث يشكل غسان الشكعة وما يمثّله تحديًا لا يمكن التغلب عليه بسهولة، لا سيما في ظل وجود منافس قوي يتمثل بقائمة "حماس" التي تستطيع أن تنافس، وربما أن تفوز).
ما سبق قد يدفع "فتح" إلى رصّ صفوفها، ومحاولة عمل قوائم انتخابية تضم أكبر عدد ممكن من فصائل منظمة التحرير، ومن شخصيات ومؤسسات المجتمع المدني والعائلات والعشائر، والمضي في إجراء الانتخابات مهما كانت النتائج، وهذا سيزيد من فرص "فتح" بالفوز، وقد يؤدي إلى إعادة النظر في إجراء الانتخابات، أو عقدها في بلديات وتأجيلها في أخرى مثلما حصل مع انتخابات مجالس الطلبة في الجامعات، إذ عقدت في الأماكن التي تفوز بها أو تعتقد "فتح" أنها يمكن أن تفوز بها، وقد يساعد ذلك على مفاقمة حالة الفوضى والفلتان الأمني، التي بدأت تنتشر بشكل متزايد في مختلف أنحاء الضفة الغربية.
وهذا الأمر نفسه قد تلجأ إليه "حماس" أيضًا، فقد تعطّل إجراء الانتخابات في البلديات التي تخشى خسارتها، فمنذ استيلائها على السلطة في غزة لم تسمح بإجراء الانتخابات المحلية ولا غيرها، بما فيها انتخابات مجالس الطلبة في الجامعات، وفي الضفة تخوض الانتخابات في المواقع والجامعات التي تعتقد أنها لديها فرصة بالفوز بها، بينما تقاطعها في المواقع الأخرى.
بالرغم من كل ما سبق، نأمل أن تكون الانتخابات المحلية أول الغيث، وأن تساعد على توفير أجواء أفضل للحوار الوطني الرامي إلى إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، لأنها تأتي بعد تفاقم المأزق الوطني العام الذي يهدد القضية والشعب والأرض بالمخاطر الجسيمة، وتفاقم المأزق الخاص الذي تمر به "فتح" و"حماس".
فـ"حماس" في وضع لا تحسد عليه في ظل بدء التنافس على خليفة مشعل في ضوء عدم وضوح الرؤية والخيارات وتعطل خيار المقاومة، وتعرضها إلى تجاذبات ما بين أجنحة مختلفة تحت عناوين الداخل والخارج، السياسي والعسكري، الوطني والإخواني، وما بين إعطاء الأولوية للمحور التركي القطري أو المحور السعودي المصري الإماراتي الأردني أو المحور الإيراني، وفي ظل تواصل الحصار على قطاع غزة وتبخر الآمال بعدما لم تتمكن تركيا من رفعه بعد توقيع الاتفاق التركي الإسرائيلي، رغم تضمنه جائزة ترضية لحماس وغزة. كما أن الجهود لإجراء مصالحة حمساوية مع مصر والسعودية وإيران باءت بالفشل ما عدا بعض التحسن في العلاقات الحمساوية الإيرانية .
أما "فتح" فهي الأخرى في وضع سيئ، إذ لم تعقد مؤتمرها السابع جرّاء الخلاف على عضويته ونتائجه، والتنافس على خلافة الرئيس في ظل ضعف الصراع على الرؤى والبرامج والخيارات وتفاقمه على المصالح والمكاسب والنفوذ، ولم تنجح محاولة الرئيس لعقد مجلس وطني بمن حضر لوقف التآكل في شرعية كل المؤسسات وهندستها بما يلائمه.
كما أن الجهود السياسية والديبلوماسية لاستئناف المفاوضات، أو لتحسين الوضع الراهن، أو حتى الإبقاء عليه، قد باءت بالفشل، فهو يتدهور باستمرار، مع تواصل الضغوط العربية لإجراء مصالحة فتحاوية فتحاوية، وازدياد دعوات تعديل مبادرة السلام العربية والتحالف مع إسرائيل في مواجهة "الإرهاب السني" و"الخطر الإيراني الشيعي". يضاف إلى ما سبق إخفاق الديبلوماسية الفلسطينية كما ظهر في عدم الحصول على الأصوات التسعة المطلوبة لطرح مشروع القرار الفلسطيني العربي على مجلس الأمن العام 2014، ومكافأة إسرائيل بفوزها برئاسة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة، وأخيرًا في صدور تقرير اللجنة الرباعية المنحاز لأول مرة للجلاد الإسرائيلي على حساب الضحية الفلسطينية.
تبقى كلمة لا بد منها، وهي أن على قوى اليسار وكل ما يمكن أن يطلق عليه "التيار الثالث" الواسع الذي يشمل كل المتضررين من استمرار الوضع الراهن والانقسام؛ أن تتعامل مع محطة الانتخابات المحلية كفرصة لبلورة ملامح هذا التيار وتوحيد وتنظيم صفوفه، بما يمكّن من درء أو تقليل المخاطر التي تهدد بعدم إجراء الانتخابات المحلية كليًا أو جزئيًا، وبما يفتح الطريق لتكون هذه الانتخابات بداية عملية لا تنتهي إلا بطي صفحة الانقسام السوداء، وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية والمشروع الوطني، وتجديد الشرعية الوطنية والانتخابية للمؤسسات الفلسطينية.