فى الأعوام السابقة على رحلة الرئيس السادات إلى القدس كانت استطلاعات الرأى الإسرائيلية تقول بأغلبية ٩٢٪ إنه لا ينبغى لإسرائيل الانسحاب من سيناء. أيامها كانت تصريحات الساسة تجرى كما لخصها موشى ديان آنذاك بأن إسرائيل أفضل حالا بالحرب مع الاحتفاظ بشرم الشيخ عن السلام بدونها. تصريحات الزعماء والقادة كانت أن إسرائيل لا يوجد فى قاموسها الانسحاب؛ وبعدها عندما جرى انتخاب مناحيم بيجين رئيسا للوزراء اعتبر ذلك مصريا وعربيا باعتباره تصويتا إسرائيليا ضد السلام، وعندها صرح الرجل بأنه تقطع يده ولا يسحب المستوطنات الإسرائيلية من سيناء. وفى ذلك الوقت فإنه كلما جاءت سيرة السلام أو حديث عن لقاءات مصرية إسرائيلية، كما جرى بصدد اتفاقيات فصل القوات الأولى والثانية، كانت جماعة متحمسة منا تشهر كل ما يقال فى إسرائيل باعتباره كلمة النهاية فى قصة طويلة محزنة ومأساوية.
مثل ذلك جرى فيما خص «القنيطرة» السورية فى هضبة الجولان قبل فصل القوات السورية والإسرئيلية بعد حرب أكتوبر، كما ظل هو الكتب المقدسة طوال الثمانينيات وقبل الانسحاب الإسرائيلى من أراض أردنية احتلتها فى حرب يونيو ١٩٦٧، وقبل توقيع اتفاق أسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. الآن تسير نفس القصة كما سارت من قبل، فكلما هبت نسمة خفيفة من الحديث عن السلام، الذى لا يعنى موضوعيا إلا الانسحاب الإسرائيلى من الأراضى المحتلة، نجد تدفقا هائلا من المعلومات عن التطرف الإسرائيلى والحكومة اليمينية الإسرائيلية، وكيف أن توازن القوى لصالح إسرائيل، وطالما كان كذلك فإنه يستحيل الاتفاق. وجرى ذلك بكل تفاصيله خلال الأسبوعين الأخيرين، وبعد اختفاء دام خمس سنوات من على الشاشات السياسية العربية، ظهرت إسرائيل مرة أخرى عندما وجدنا نيتانياهو يزور أربعة عواصم إفريقية، ويحضر له للمقابلة وتلقى البركة سبعة من القادة. واكتملت الصورة على الورق وفى الشاشات، عندما قام الوزير القدير سامح شكرى بزيارة إسرائيل فى مهمة للمضى قدما فى مبادرة الرئيس السيسي.
وكما يحدث دائما خرجت الزوابع الكلامية تردد كل ما عشنا عليه قرابة سبعة عقود من الصراع العربى الإسرائيلي. لا استفاد أحد من الحروب، ولا كان لدى أحد معرفة بالسلام، وكأننا لا نتعلم من تاريخ، أو جغرافيا، أو تكنولوجيا؛ وإنما لا يوجد إلا اللغة القديمة، والكتب القديمة، و«كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة»، كما نظم شعرا نزار قباني. ذات الأقاويل بذاتها، والتصريحات بنصها، والتحليلات بحرفيتها، فهناك أزمة ثقة بين الأطراف يستحيل عبورها، وهناك حكومة يمينية رجعية إجرامية فى إسرائيل «يستحيل» التعامل معها. وفق هذه النصوص المكررة فإنه لا توجد فرصة فى أى اتجاه، ولا بد أن تبقى الأوضاع القائمة على ما هى عليه، المهم ألا يحدث التطبيع، ولا يذهب دبلوماسى ولا سياسي، وكأنه كان متصورا أن تكون إسرائيل عدوا لطيفا يستيقظ ذات صباح فيجد نفسه قد ارتكب جرما كبيرا فى الحق الفلسطينى فيقرر اليهود حمل حقائبهم والرحيل من فلسطين بعد ترك بعضا من الثروة تعويضا للفلسطينيين عما لحق بهم من أذي.
بالطبع لا يوجد مثل ذلك فى الواقع ولا كان موجودا تاريخيا، والحقيقة أن الواقع والتاريخ يقولان لنا أمورا أخرى تختلف عما يجرى فى أحلام اليقظة والمنام. ويستعصى على الفهم أن ما صدر منا لا يكاد يعرف شيئا عن كثير من التحولات التى جرت فى ساحة الصراع من الجائز أنها تدفعنا إلى التفكير بطريقة تختلف عما اعتدنا التفكير فيه. فلمن لا يعرف فإن قضية التطبيع لم تعد لها ذلك السحر الذى كان لها منذ عقدين من الزمان، والتى كانت كثرة من المثقفين والمفكرين العرب يعتقدون أنها آخر الأوراق المتاحة لنا فى الصراع مع إسرائيل. المشكلة مع هذا المنطق أن الأوراق عندما لا تستخدم فى اللعب فإنها تنتهى إلى الإحتراق، ولما كان الأمر ليس لعبا وإنما حياة وموت وأرض، فإن النتيجة هى أن العرب فقدوا مثل هذه الميزة التفاوضية. الحقيقة المُرة أن إسرائيل لم تعد مهتمة لا بالتطبيع، ولا بالشرق الأوسط الجديد، ولا بمثل هذه التعبيرات التى كانت تبعث على الإنتفاضات العنترية التى كانت تجرى وسطنا فى عصور سابقة. إسرائيل اختارت أن تكون جزءا من الغرب المتقدم، وقبلت تحدى المنافسة، وهى الآن مصنفة فى مكانة أخرى غير تلك التى نعيش فيها.
ربما نعود لهذا الموضوع مرة أخرى عندما نحسب الأوراق المتاحة والحقيقية لدينا عندما لا يكون تجميع الأوراق وليس استخدامها جزءا من الثقافة الوطنية. ولكن العجب الآن هو كيف نتجاهل وسط حديث الصراع العربى الإسرائيلى ما جرى لسوريا التى اختارت طريقا مختلفا عن الطريق الذى اختارته مصر؟. فإذا كان من قتلوا من السوريين بواسطة سوريين آخرين يتجاوز ٤٠٠ ألف نسمة، أما الجرحى فتجاوزوا المليونين، والمدن والقرى دمرت بما لا يعد ولا يحصي، وزحف ١١ مليون سورى نازحا ولاجئا إلى المدن المضروبة أو إلى الغرق فى البحر؛ فلا بد أن عسرا كبيرا فى التفكير يستبعد أن مثل كل ذلك لم يبذل فى تحرير الأراضى السورية المحتلة. هل نحكى عما جرى فى فلسطين وانقسامها إلى كيانين بعد بحث عن دولة واحدة مستقلة. وماذا عن مصر التى ثقبت حدودها الأنفاق، وجرت من غزة غارات مدنية وأخرى عسكرية إرهابية عليها؟ الأمر كله يحتاج زيارة أخرى نقول فيها قولا جديدا وجادا؟!.
عن الاهرام