للمرة الثانية على التوالي يخطر في بالي أن أعود الى "الحدث" التركي الذي يشبه الى حدّ بعيد حكايات ألف ليلة وليلة.
غريبٌ كل الغرابة بعض ما حدث، بل كل ما شهدته انقرة واسطنبول، وما انعكس زلزالاً بقيادة الرئيس طيِّب أردوغان، يكاد يجرف نصف ضباط الجيش التركي وثلاثة أرباع القضاة، وثلثي كبار الموظفين.
وكأن هذا الانقلاب الهزيل ما كان إلا لتكون ردة فعل الرئيس التركي الذي يقود بنفسه انقلاباً حقيقياً، وتحت عنوان معاقبة الانقلابيين في كل الأجهزة والمراكز.
فالعقاب جاهز بكل أدواته وتفاصيله، قبل أيام وأسابيع من حصول الانقلاب الفاشل بكل تفاصيله.
كما لو أن خطة سياسيَّة ما، أُعدّت بدقة ليكون هذا الانقلاب جاهزاً للفشل لا للنجاح، فيسقط بعد ساعة أو ساعتين من بدايته، ليبدأ حالاً المخطَّط الجهنمي الذي أعُدَّ بدقة فائقة ليحصد الكبار من القادة في كل المواقع والمؤسسات الحسَّاسة.
مراسلون أجانب، عسكريون سابقون، سياسيون مخضرمون، اشتركوا مجتمعين ومنفردين في البحث عن "الخيط الخفي" في هذه الوقيعة الجهنمية التي قادها الرئيس التركي كما لو انه يخوض غمار حرب مع أعداء قدامى.
فما دور الرئيس التركي الفعلي، وهل فوجئ حقاً؟ وهل هذا هو كلّ الانقلاب الذي لا يصلح حتى للتجريب في دولة صغيرة؟
ثمة لغز كبير في كل ما شهدته تركيا خلال الأيام والساعات الأخيرة، جعل "خبراء الانقلابات" يصابون بما يشبه الذهول: هل هذا هو الانقلاب الذي يعده كبار القادة في جيش تركيا؟
وهل هذا هو الجواب والعقاب لانقلاب كهذا، غير صالح لضبط السير في يوم ازدحام؟
أسئلة متعددة في هذا الصدد، يطرحها صحافيون ومراسلون وعسكريّون سابقون، وكلها تستغرب وتتساءل: ما دام الرئيس أردوغان كان مطلعاً وعلى علم بما يحاك في السلك القضائي وداخل قوات الجيش والأمن، فلِمَ لم يطردهم من مواقعهم؟
بل لماذا لم يحلهم على التحقيق بالتهم ذاتها التي اعتمدها لطردهم من وظائفهم ثم سوقهم على مرأى من جميع الأتراك، والعالم أيضاً، الى السجون والعقاب وتوجيه أخطر التهم اليهم قبل أن يحصل أي تحقيق أو استجواب رسمي مع أي منهم؟
انها أسئلة تحتمل المزيد من علامات التعجُّب والاستفهام. هذه الالتباسات، المغمَّسة بالغموض، دفعت الذين يعرفون الوضع السياسي في تركيا عن كثب أن أردوغان بدأ رحلته الى حيث خطَّط منذ وقت بعيد، والى حيث يؤدي مشواره لتحقيق أهدافه. وهي كثيرة، وكبيرة، وتتطلع الى تغييرات تُفرغ الساحة بكاملها وبكل فروعها لـ"الزعيم الأوحد" الذي يطمح الى أن يكون أتاتورك المرحلة الجديدة.
مَنْ يستطيع أن يؤكد أو ينفي؟ وحدها الأيام تملك الجواب.