الحلقة المركزية في راهن المواجهة

image-XOWNQXMF98LBU10D
حجم الخط
تكابد الشعوب العربية منعرجات مرحلة مفصلية، عنوانها الأساس: تفكُّك الدولة العربية القُطْرية، وتبلوُرِ نظام دولي - إقليمي جديد، لا دور يُذكر للرسميات العربية في تحديد ملامحه، ولا وزن فيه للقضايا العربية، خصوصاً قضية فلسطين التي لم تعد "قضية العرب الأولى"، ولا "نكبتهم" الوحيدة. 
فبعد عقود على استقلال الأقطار العربية، صار للعرب قضايا ونكبات، بوزن قضية فلسطين ونكبتها، في كل من العراق وسورية وليبيا واليمن، (والحبل على الجرار)، لمصلحة إقامة "إمارات" الطوائف والمذاهب التكفيرية الإرهابية، ما يعني أن ثمة للصراع ميزان قوى جديداً آخذاً بالتشكل، ويزيد، شئنا أو أبينا، قضية فلسطين تهميشاً على تهميش، بينما تشن إسرائيل هجمة استيطانية مخطَّطة متصاعدة لالتهام ما تبقى بيد الفلسطينيين من أرضهم، ذلك علماً أن إسرائيل هذه باتت تسيطر، بصيغ مختلفة، على 85% من أرض فلسطين الانتدابية. 
هنا ثمة للمواجهة واقع جديد يؤكد أن الاستيطان، (جوهر الصهيونية)، الذي أسس القاعدة التحتية لنشوء إسرائيل وتوسعها، قد تحول في تراكمه إلى حالة كيفية تدفعها، مجتمعياً، سياسياً، عسكرياً، أمنياً، ونخباً وناخبين، نحو أقصى درجات العدوان والتطرف والتشدد. 
وفي نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة تعبير واضح لا لبس فيه عن مواقف إسرائيل النظام، وليس الحكومات، فحسب، من القضية الفلسطينية وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بها.
إزاء حقائق ميزان القوى الجديد الآخذ بالتشكل، وإزاء حقائق مواقف إسرائيل الثابتة كنظام على مواصلة، بل وتصعيد، سياسة مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد والعدوان، فإن من الطبيعي لدرجة البداهة الجزم بأن لا متسع حتى لـ"حل الدولتين" العائم، فما بالك بـ"الحل الوسط": تطبيق قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بحق "العودة والدولة وتقرير المصير". وأكثر، ثمة ما ينذر بعودة قادة إسرائيل إلى سياسة الطرد الجماعي لحل التناقض بين تشبثهم بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي" والتوازن الديموغرافي القائم: "لم يعد اليهود أغلبية سكانية بين البحر والنهر"، حسب تقديرات أرنون سوفر، أكبر الديموغرافيين الإسرائيليين. 
ولمَ لا يكون الطرد الجماعي خيار إسرائيل لحل هذا التناقض؟ خاصة في ظل تراجع، إن لم يكن انعدام، فرص حله باستقدام المزيد من موجات الهجرة اليهودية الكبيرة، وفي ظل أن المنطقة مرشحة لحروب من شأن  وقوعها أن يوفِّر الظرف المناسب لتحويل فكرة الطرد الجماعي إلى واقع. ناهيك عن أن قادة إسرائيل لم يتورعوا يوما عن ارتكاب جرائم الطرد الجماعي، بوصفها مقتضى من مقتضيات إنشاء إسرائيل وتوسعها ككيان استيطاني عدواني إقصائي اقتحم المنطقة عنوة بوظيفة استعمارية إمبريالية لا لبس فيها.
إن كان للإشارات السابقة من أهمية، فهي تحديد الحلقة المركزية في سلسلة الاستحقاقات السياسية الفلسطينية. وبالملموس: طالما أن هدف السيطرة على الأرض وتفريغها من أهلها،لا يزال، الهدف الأساس للمشروع الصهيوني، فإن حماية الأرض وتعزيز صمود الشعب لا يزال محور الكفاح الفلسطيني، واختبار جدارة نخبه القيادية القائمة التي تُظهر- بتركيبتها وصراعاتها وانقساماتها - عجزاً غير مسبوق لدرجة أنه لم يعد مبالغة القول: إنه بمقدار ما أن المشروع الصهيوني واضح في أهدافه تجاه الأرض واستيطانها وتهويدها بمقدار ما أن المشروع الوطني الفلسطيني ملتبس بفعل ما يسود أطره القيادية من حالة ارتجال وتنابذ وأوهام سياسية تعكس مصالح نخبوية وفئوية ضيقة تغيِّب، بمعزل عن النوايا، ما تتعرض له الأرض، ومثلها الشعب، من استباحة شاملة ومخططة، تعكس مقتضيات راهن أهداف المشروع الصهيوني، وهو ما يصعب، بل يستحيل، تلبية استحقاقات مواجهته والتصدي له، وإدارة الصراع معه سياسياً وميدانياً، في ظل غياب برنامج وطني فلسطيني موحد بقيادة واحدة، ركيزته الأساسية حماية الأرض وتعزيز صمود الشعب. 
فحتى إقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيدة على حدود 67، تحتاج كفاحاً وطنياً متعدد الأشكال والأوجه ضد احتلال استيطاني إقصائي، من العبث تصور رحيله، بمظاهرة السياسية والاقتصادية والاستيطانية، من دون تحويله إلى مشروع خاسر بالمعنى الشامل للكلمة.
أما دون ذلك فملهاة جربها الفلسطينيون قرابة 25 عاماً ولم يجنوا منها سوى تآكل البرنامج الوطني والانقسامات الداخلية المدمرة وإضعاف القدرة الوطنية على مقاومة سياسة مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد، الماضية قدماً، بتسارع خيالي، نحو السيطرة التامة على ما تبقى بيد الفلسطينيين من أرضهم في الضفة، وقلبها القدس، فضلا عن المثلث والنقب والجليل. 
أما قطاع غزة فسياسة إسرائيل تجاهه: إما استمرار حصاره، وشن العدوان تلو العدوان عليه، أو رفع حصاره وإعادة اعماره وبناء مطاره ومينائه، مقابل أن يأخذ مسمى دولة بعد تجريده من السلاح، أو إبرام "هدنة طويلة الأمد" مع الطرف المتحكم به واقعياً، ما يعني أننا مرة أخرى، إنما في واقع وطني أسوأ، (عنوانه انقسام داخلي مدمر)، أمام مقاربة "غزة أولاً"، كحيلة تم تمريرها في صيغة "غزة وأريحا أولاً"، أي أننا فعلاً إزاء خطة لفرض "غزة أولاً وأخيراً". 
ولمن ينسى أو يتناسى يجدر تذكيره بمغزى تمنيات: "ليت البحر يبتلع غزة"، وبمغزى فك الارتباط مع غزة من طرف واحد، وبمغزى إصرار وفد إسرائيل على رفض التعامل مع الوفد الفلسطيني كـ"وفد موحد"، وعلى رفض مناقشة قضايا تخص الضفة والقدس، خلال "مفاوضات القاهرة" بعد العدوان الأخير على قطاع غزة، ذلك فضلاً عن مغزى طرح إما "تهدئة مقابل تهدئة" أو "رفع الحصار مقابل تجريد المقاومة من سلاحها".        
بناء على كل ما تقدم، لم يبقَ للنخب القيادية الفلسطينية في هذه المرحلة المفصلية وقت لمواصلة الانشغال في الجدل حول عبثية أو لا عبثية مواصلة التفاوض، أو حول إذا ما كانت الولايات المتحدة لا تريد أو لا تستطيع الضغط على قادة إسرائيل، بعدما ثبت عداؤها حتى لأدنى الحقوق الفلسطينية، أو حول إذا ما كان بوسع طرف من طرفيْ الانقسام الداخلي قيادة الشعب الفلسطيني وتمثيله بمفرده، أو حول أيهما يتحمل مسؤولية أكثر عن وقوعه، وإطالة أمده، واستفحال التناقض بين الشعبي والرسمي في المجابهة المفروضة مع الاحتلال، أو حول ما هي الحلقة المركزية للكفاح الوطني الفلسطيني في راهن الصراع، أو حول ما هو الخيار السياسي والميداني القادر على مواجهة الهجوم السياسي الإسرائيلي المتصاعد، والهجمة الاستيطانية المجنونة، أو حول ما إذا كان بناء الوحدة ممكناً من دون الاتفاق أو التوافق على أساس سياسي وديمقراطي ينهي لعبة الاتفاقات والتفاهمات الشكلية لإنهاء الانقسام، أو حول الخ....من أشكال الجدل البيزنطي الذي لم يجنِ، ولن يجني، سوى المزيد من إحباط الحالة الشعبية، والمزيد من إضعاف العامل الوطني.                 
هنا ثمة حالة التباسٍ وتيهٍ وطني يتحمل مسؤوليتها، أساساً، طرفا الانقسام اللذان يتهربان، وكل منهما لأسبابه، من تلبية استحقاق إحياء البرنامج الوطني: العودة والدولة وتقرير المصير، برنامج منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. 
بل ويتهربان حتى من إعادة توحيد وتعريف "السلطة الفلسطينية"، بما يحولها إلى جهاز إداري قادر على تلبية متطلبات مجالات التعليم، الصحة، والتنمية لأربعة ملايين هم فلسطينيو الضفة وقطاع غزة، الذين تثقل كاهلهم هموم بطالة تقارب 40%، و80% بين النساء، وفقر يفوق 50%، وتعليم جامعي وثانوي ينتج بطالة سنوية لنحو 40 ألفا من الخريجين، وقطاع صحي مترد، ما يضطر الآلاف من الفلسطينيين إلى العلاج في مستشفيات غير فلسطينية، ناهيك عما أضافه التدمير شبه الكامل لقطاع غزة من أعباء وهموم لها أول بلا آخر، وكل ذلك بينما يمكن توفير، ولو الحد الأدنى، من متطلبات معالجة هذه الهموم، فيما لو تم توحيد الجهود والطاقات والإمكانات الوطنية، وصبها بتخطيط سليم في حلقة حماية الأرض وتعزيز صمود الشعب، كحلقة مركزية في محطة مفصلية وقاسية من محطات مرحلة تحرر وطني لم تُنجز مهامها بعد، بل ودون إنجاز حدها الأدنى خرط القتاد.