الأزمة التركية الراهنة، الحسم ليس حلاً

سميح شبيب
حجم الخط

قبل زهاء خمس سنوات مضت، كان لي شرف المشاركة، بوفد فلسطيني، ضمّ شخصيات من المجتمع المدني الفلسطيني، من كُتّاب ومُدرّسين جامعيين وإعلاميين، إلى تركيا، واللقاء مع الرئيس التركي عبد الله غول، ومعظم وزراء الحكومة التركية، جاء ذلك بترتيب مع سفيرنا في أنقرة، نبيل معروف، والخارجية التركية.
استمعنا خلال لقاءات عديدة من الوزراء الأتراك، ومن الرئيس التركي، لتجربتهم وطموحاتهم، واستمعوا بروّية وإصغاء لمطالبنا وما يدور في أذهاننا.
جرت اللقاءات في أنقرة وفي اسطنبول، وكانت غنية ومفيدة ومثمرة.
تعرفنا إلى التجربة التركية في ظل عهد حزب العدالة والتنمية، ميدانياً.. ما استنتجته من خلال تلك اللقاءات، استناداً لمعرفتنا النظرية، هو محاولة حزب إسلامي، الاستمرار في الحكم، ضمن رؤية حداثية للدين وللواقع القائم في آن معاً، والعمل على تحويل مجتمع شهد منذ العام 1924، تحوّلات كبرى، على أسس علمانية خاضها أتاتورك، وتراكمت خلال سنوات طويلة، وكان قوامها الأساس الجيش التركي.
يكفي أن نذكر، بأن صور الزعيم التركي أتاتورك، لا تزال تتصدّر المؤسسات الرسمية وغير الرسمية على حدٍّ سواء، ومنها المقر الرئيس لحزب العدالة والتنمية التركي، ويكفي أن نذكر، بأن الأذان يُرفع في المساجد التركية كافة، إلى جانب البارات والحانات المنتشرة في المدن التركية.
هناك نوع من المزاوجة الغريبة والعجيبة في التجربة التركية، وهذا ما تمليه الوقائع الميدانية التي يعايشها المجتمع التركي.
هناك قوة الجيش والجنرالات وهو ما لا يمكن القفز عنه أو تجاوزه، وهناك قوة الشعب، وأكثريته لا تزال على دينها الإسلامي، والتي لا تزال ترى في الدين الإسلامي، خلاصاً لها ولتركيا عامة، ومعظمها في الأرياف.
تمكن حزب العدالة والتنمية من حكم البلاد، عَبر صناديق الاقتراع، ولا يزال يحكم البلاد، عَبر الديمقراطية، وهذا أمر طبيعي ومفروغ منه في ظل التركيبة الاجتماعية التركية.
ما لمسناه من خلال لقاءاتنا مع المسؤولين الأتراك، هو محاولة إدارة الأزمة والصراع داخل المجتمع التركي، بهدوء وعَبر خطى مدروسة، وإن طال الزمن، تجنباً لاحتكاكات لا تحمد عقباها!
أدار أردوغان هذه الخطى بهدوء وروية، وبمزاوجات، شديدة الخطورة، ما بين العلمانية والدين، وما بين الجيش ومؤسسات المجتمع المدني، وما بين وجود تركيا داخل حلف الناتو، وما بين مساعدة الإسلاميين، خاصة «الإخوان المسلمين».
جاءت خيبة الأمل الأولى لاردوغان ولحزب العدالة والتنمية، من تمنع الاتحاد الأوروبي دخول تركيا للاتحاد الأوروبي، ولأسباب معروفة، يأتي في مقدمتها ثقافة تركيا الإسلامية.. وجاءت الخيبة الثانية، على هوامش الأزمة السورية، وما نتج من عداءات لتركيا، خاصة من روسيا، وكذلك مواقف إسرائيل إزاء تركيا من جراء مساعدتها حركة «حماس»، ورفع شعار «كسر الحصار عن غزة»... قبل أسابيع من الانقلاب العسكري الفاشل، اتخذ اردوغان، جملة إجراءات لافتة للنظر، بل ان بعضها شكل ما يشبه الانقلاب السياسي على سياسات تركيا الإقليمية، كان أبرزها اعتذار تركيا لروسيا، عن إسقاط الطائرة الروسية، وإبداء رغبة تركية شديدة لتصحيح العلاقات الروسية ـ التركية، وكذلك التوصل لاتفاق تطبيع جديد مع إسرائيل، دون التوصل لاتفاق يكفل فك الحصار عن غزة.
مؤسسة الجيش في تركيا لا تزال قوية ومتماسكة، ومعظم الجنرالات علمانيون في تفكيرهم، وكذلك سلك القضاء والتعليم.
جرى الانقلاب، وتمكن حزب العدالة والتنمية من السيطرة عليه، رغم حجمه وخطورته في آن.
لم يكن الانقلاب عسكرياً بالمعنى الدقيق، بل كان له جوانب عسكرية، إلى جانب جوانب دينية تختلف رؤيتها عن رؤية حزب العدالة والتنمية، إضافة لمؤسسات عديدة في المجتمع المدني.
تبدو صورة الأوضاع القائمة في تركيا، من خلال رزم الإجراءات التي يقوم أردوغان بتطبيقها ميدانياً، على أنها خطرة، بل وشديدة الخطورة، وتبدو استراتيجية المزاوجة بين أمور متناقضة استراتيجية لم تعد صالحة على أية حال.
الحسم في الأمور، وبشكل واضح وجلي، سيكون عنوان القيادة لاردوغان في المرحلة القادمة، لكن هذا الحسم، له مخاطره الجسيمة والخطرة على الأطراف كافة، وفي المقدم منها حزب العدالة والتنمية!