نقد الواقع العربي المهلهل الملتبس بين القديم فرقة والاختلاف والدم:
عمق البساطة في التصوير والنقد الاجتماعي والسياسي والثقافي بل والحضاري، هو ما وجدناه في هذا المسلسل الرمضاني العربي، السوري المولد.
ولعله من أهم مسلسلسلات رمضان هذا العام، بما استطاع النفاذ الى القلوب والعقول، فبالكوميديا وصل القلوب كأسلوب ومحتوى وأداء تمثيليا وإخراجا بل وأزياء، وبالرموز الدلالية الموحية التي وصلت العقول، والتي أخذتها بحنان ورفق لتأمل حالها من أجل التغيير التصالحي بعيدا عن العنف.
دارت أحداث المسلسل في بيئة كوميدية بدوية حول (خلف) و(مهاوش)، الرضيعين اللذين يعثر عليهما (طرود) زعيم قبيلة الطواريد قبل ثلاثين عامًا، ويأمر برعايتهم كما يأمر نساء القبيلة بإرضاعهم، وبسبب شراهتهم يرضعون من كل النساء مما يجعلهم أخوة بالرضاعة لجميع بنات القبيلة عدا (وضحة)، فيتنافسان على حبها كما يتنافسان على الكثير من الأمور.
تلك هي فكرة العمل الفني، والتي هي بلا شك فكرة موحية، مليئة بالدلالات، ومثيرة للكوميديا، لكن خلال تنفيذ الأحداث، تم تصوير حال هذه التجمعات، ليكون نقدها مجالا لنقد المجتمعات العربية بشكل عام.
ولعل من يتتبع الأحداث-الأفعال الاجتماعية، والذاتية الشخصية وردود الأفعال هنا، سيجد منطلقات ودوافع الشخصيات، والتي تنفعل قبليا وفرديا، تبعا للمصالح القبلية والشخصية، وأقلها ما ينشد المصلحة العامة.
وهذه من أحوال ومظاهر التجمعات العربية الصغيرة والهامشية الآن، كذلك فإنها أصلا قريبة من التراث الاجتماعي العربي الذي تشكل القبائل والقبلية وما زالت القيم والدوافع ونمط التفكير. قديما خلال القرون الأخيرة، وكذلك في ظل الكولينيالية استمرت المجنمعات العربية تحاكي هذه الثقافة، وصولا لمرحلة الاستقلال، وحتى الآن وهي غير قادرة على الفكاك من هذا الأسر الثقافي والاجتماعي والسياسي، رغم محاولات الأحزاب والإعلام والمفكرين.
وقد استوقفني ما صرّح به المخرج الأستاذ مازن السعدي حين وصف مسلسل "الطواريد": "بأنه ليس سهلاً، لكننا سعينا لئلا نجعله معقّدًا. هناك شيء جديد فيه، فمثلاً لدينا كل يوم قصة، ولدينا ارتباط بين البداوة والمدينة، وهذا يجعل العمل غير سهل".
لعل المخرج كفنان لم يرد أن يبوح بكل ما لديه، تاركا للجمهور العربي الشعور والتفكير، لكن لعل لنا هنا أن نفسّر شيئا عن الارتباط هنا بين البداوة والمدينة، خصوصا أننا ندعي أن هناك رمزية عالية وواقعية ونقدية في تصوير هذا الاختلاط البدويّ والمدينيّ.
البداوة-الميدنة، رمز للحالة التي لم يستطع المجتمع العربي حسمها، ليس فقط خلال الستة عقود الأخيرة، بل منذ بدء ما اتفق على الاصطلاح عليه: النهضة العربية الحديثة.
فالإدارة والحكم السياسي والتنظيمي، والأمني، والاقتصادي والإعلامي، هو ملتبس، لا يضع الجمهور (المواطنين/المواطنات) كهدف يقدم له الخدمة في ظل السعي للارتقاء به، بقدر ما يؤكد على العلاقات الموجودة من اجل السيطرة عليه. إنه تكريس للواقع الملتبس، من أجل ضمان إعادة إنتاجه، ليسهل التحكم به.
نستطيع فهم هذا النقد السياسي والثقافي والاقتصادي والأمني والاجتماعي والإعلامي من خلال الكثير من المشاهد، فمن خلال استخدام فكرة السرد القصصي، بتطوير الحكواتي بمصاحبة اسكتشات مسرحية، من خلال النافذة في "بيت العريشة" كرمز لمربع شاشة التلفزيون، واستخدام الإعلان التجاري، ومباركة الضابط لهذه الفكرة، نستطيع فهم دور كل المؤثرين في المجتمع، حيث يتم إلهاء الجمهور بالسرديات بأساطيرها ومبالغاتها، وتوجيه المجتمع بالتالي ثقافيا وسياسيا، كذلك اقتصاديا، في حين يحافظ رجل الأمن على هذا السياق.
نقد الواقع العربي الملتبس بين القديم والحداثة؛ هذا هو حال المجتمعات العربية بكل بساطة، في الحكم والنظم، والتي ظل الحال فيها مترددا بين القديم والحداثة، منجا خليطا غريبا، عبر عنه مصمم الأزياء بتلك الملابس المهلهلة، خصوصا في زي الشرطي، رمز الدولة، والتي هي أصلا انعكاس لهذه الثقافة، والتي أيضا يحكم ساستها من خلال التخويف.
اجتماعيا، وبشكل خاص، تمثّل المرأة هنا ما يسود من ثقافة ذكورية مستبدة، غير مقتنعة بالتغيير الاجتماعي، حيث تظهر المرأة التابعة غير المستقلة رغم ما تتميز به من قدرات.
إن النقد الذكي من قبل المسلسل للتجمعات العربية الصغيرة والهامشية إذن هو نقد للمجتمعات العربية المهلهلة، بما فيها من مدن غير قادرة على التخلص من إرث الماضي، وغير قادرة على الانتماء للعصر تماما، فتلجأ للانتقاء الفكري. وهو نقد يرينا أننا كعرب أمة هامشية على الخارطة الدولية.
ولم يكن اختيار الاسم "الطواريد" بعيدا رمزيا عن مجمل الحال، وهو ما برز في الحلقات الأخيرة حين تم تقسيم فضاء الطواريد، من خلال الحبل البلاستيكي الطويل!
هو عصر القبائل والإمارات، عصر الفتن، والتخلف، عصر الدموع العربية النازفة.
ولعل الكاتب-المخرج لم يردا زمنا خاصا أومكانا معينا، بل حتى اللهجة المستخدمة كانت لهجة عربية سائدة تجمع البداوة المعروفة عربيا في كل الأقطار، انطلاقا من استهدافه البلاد العربية وليس بلدا بعينه.
وهنا نصل إلى السؤال الحضاري، فيما نقدمه كعرب للعالم من نموذج في الحكم والإدارة والثقافة.
أما عن اختيار الشكل الدرامي الكوميدي ، فهو أسلوب جذاب للجمهور، من أجل التغيير؛ فبكشف الحال ونقده عميقا فإن المواطن رغم ضحكه على حاله، سيجد نفسه متأملا العيش باتجاه نقده والخلاص منه. كما أنه أسلوب تصالحي غير عنفي، وهو أسلوب يثير الأمل أكثر من الإحباط واليأس.
ولكن رغم تقديرنا لهذا العمل الفني الممتع والكوميدي، بما قدم من فكرة جادة ونبيلة وقومية وإنسانية، إلا أنه وقع فيما تصر المسلسلات على الوقوع به، وهو جعل كل مسلسل 30 حلقة، فيتسرب التكرار والملل، فيما كان بالإمكان تجاوز ذلك لو اقتصرت الحلحلقات على نصف هذا العدد.
لقد تم تقاسم نص المسلسل ما بين الفكرة والكتابة، فقد كانت الفكرة لشادي دويعر، فيما كتب السيناريو والحوار الكاتب مازن طه، ولا ندري إلى أي مدى اتفقا فنيا، ولكن بدون شك فقد كانت هذه الأفكار النقدية اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وإعلاميا واقتصاديا وأمنيا حاضرة.
الطواريد: مسلسل جدير بالمشاهدة! ولم يندم من تابعه في هذا الشهر الفضيل، وكان يستحق ترويجا واعيا للمواطنين/ات العرب، ليتأملوا واقعهم باتجاه تغييره، بعيدا عن العنف الدمويّ، الذي يذبحنا جميعا.
لعلنا ننحج في مقالنا هذا بمحاكاة أسلوب ميلو دراما "الطواريد"؛ مستلهمين الأسلوب الذي لم يثقل على المشاهدين، تاركا لهم ولهن التفكير والتأمل.
الطواريد إذن نحن المكتوين بنار الفتن القديمة والحديثة، وإن السيف الذي جز عنق أحدنا، أحدهم، لم يكتف بجز الامة إلى نصفين، بل استمر الجزّ، حتى لم نعد قادرين على عدّ عدد القبائل والطوائف.
والطواريد هم أهلنا العرب في كل مكان، ولربما في كل زمان، إذ لم يكن زمن يمضي يخلو منهم.
والطواريد هؤلاء وأولئك، كل من يصرّ بوعي أو بجهل، أو بخيانة، على ذبح الإنسان العربي، لعل المسلسل بوعيه يكون رسالة لاجتثاث ثقافة الطواريد الإقصائية ، لنستأنف نهضتنا العربية القديمة والحديثة.