الانقلاب الذي اغتال الانقلاب أردوغان «الإخواني» سلطاناً على العرب؟

thumbgen (35)
حجم الخط
 

مشروع هو السؤال، اليوم، وفي ضوء مجريات الحدث التركي: هل يكون الانقلاب الفاشل في تركيا آخر المغامرات الانقلابية في منطقة المشرق التي يحكم العسكر بعض أهم عواصمها، لا سيما العربية منها؟
بمعزل عن التفاصيل، فإن أهم ما شهدته ميادين اسطنبول، وشاهده العالم جميعاً، بالصوت والصورة: أن الشعب قد تجرّأ على مواجهة العسكر فكسر هيبتهم واعتقل العديد من الضباط والجنود المدججين بالسلاح، بما في ذلك قادة الدبابات، ولم تُخْفه الطائرات الحربية والحوامات.
وصحيح أن رجب طيب أردوغان ليس النموذج الأفضل للحاكم الديموقراطي، لكن الانقلابيين المرتبكين ـ بعد انكشاف حركتهم واضطرارهم إلى تقديم ساعة التحرك إلى التاسعة والنصف ليلاً وبينما الشوارع والساحات تغصّ بالساهرين، مواطنين وسياحاً - قد منحوه الفرصة الذهبية للانقضاض عليهم واعتقال رؤوسهم... تمهيداً لأن يحول تركيا جميعاً، في الأيام التالية، إلى معتقل مفتوح لكل معارضيه في الماضي والحاضر والمستقبل!
إنه أول انقلاب فاشل في تركيا التي حكمها العسكر أكثر من نصف قرن، قبل أن ينجح أردوغان وحزبه «الإخواني» في إنهاء عصر الانقلابات العسكرية الذي بدأ ـ في منطقتنا ـ مع أول انقلاب في سوريا قاده الزعيم حسني الزعيم في ربيع العام 1949، بذريعة الرد على الهزيمة العسكرية في مواجهة «العصابات الإسرائيلية» التي استكملت احتلال فلسطين.. والذي تكشف في ما بعد أن شركة «التابلاين» كانت خلفه. ولقد توالت الانقلابات العسكرية للاستيلاء على السلطة في دمشق على امتداد عشر سنوات، حتى إقامة دولة الوحدة بين مصر وسوريا. وساد في تلك الفترة تعبير «تصبح على انقلاب» للسخرية من العمليات الانقلابية التي لا تتطلب الواحدة منها أكثر من السيطرة على رئاسة الأركان والقصر الجمهوري والإذاعة الرسمية، التي لم يكن هناك غيرها كوسيلة إعلام عمومية.
لقد أعطت المحاولة الانقلابية البائسة في تركيا شرعية إضافية لنظام أردوغان الذي تبين أن خصومه أقوياء في الجيش كما في القضاء وهيئات التدريس والطلاب، في الجامعات كما في المدارس. ما يعني أن الملياردير المعارض المنفي (في الولايات المتحدة) له حزبه المنظم، هو الآخر، والمنتشر في مختلف أنحاء تركيا ومختلف المؤسسات العسكرية والمدنية.
على هذا يمكن القول إن هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة قد وضعت نقطة النهاية لأسطورة الجيش المنقذ، خصوصاً أن تاريخ الانقلابات العسكرية في تركيا قد أوصلها إلى حافة الإفلاس وافتقاد الدور في المنطقة، كما على المستوى الدولي.
ولعل أكثر ما لفت الانتباه، على هاش مجريات الانقلاب وردود الفعل عليه، أن شيوخ قطر، وربما معظم شيوخ الخليج، كانوا الأعظم خوفاً على الديموقراطية في تركيا، وأن المحطة التلفزيونية الأنجح بين ما يملكون تصرفت وكأنها الملاك الحارس لديموقراطية أردوغان وحزبه «الإخواني».
في المقابل، فإن التسرع والارتجال في وسائل الإعلام المصرية، وخروج الصحف جميعاً ـ بعد التلفزة ـ تبشر بنجاح الانقلاب كان سقطة شنيعة، خصوصاً أن أجهزة أردوغان الأمنية كانت قد اعتقلت الرؤوس المدبرة واندفعت في طول البلاد وعرضها تطارد وتعتقل ـ وبطريقة فظة وشرسة ـ القضاة وكبار الضباط والأساتذة الجامعيين والمسؤولين عن الجمعيات الخيرية والمدارس التابعة لغولين، الذي تلح أنقره على السلطات الأميركية بضرورة تسليمه لها.
باختصار: لقد كشف مشروع الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا الأوضاع العامة في دول المنطقة جميعاً، ولا سيما علاقة أنظمتها بشعوبها، واستطراداً موقفها من الديموقراطية... ومن الشعار الديني.
ومن اللافت أن العديد من الأنظمة العربية قد اندفع إلى إعلان تأييده المطلق لأردوغان «الإخواني»، بينما هي تكافح ضد وجود «الإخوان المسلمين» فيها. وكان في هذا التأييد نبرة مذهبية واضحة، لعلها بلغت ذروة تجليها في بعض الشارع العربي المناهض لإيران والباحث عن «زعامة سنية قوية»، لا يهمّ أن تكون تركية، بل وحتى أن تكون «إخوانية».
من الصعب الافتراض أن تأييد العديد من الأنظمة العربية، لا سيما في دول النفط، حكم أردوغان في تركيا هو تأييد لـ «الإخوان المسلمين» الذين تطاردهم معظم دول الخليج العربي (باستثناء قطر، لأسباب تخصّ حاكمها).
ولكن من المرجح أن هذه الدول نظرت ـ وهي تنظر الآن ـ إلى حكم أردوغان على أنه يشكل حماية معنوية وسياسية لها في مواجهة إيران الخمينية.. أي أن التلاقي يتم في أحضان المذهبية على حساب القومية، أو الهوية العربية، التي فقدت مضمونها بافتقاد دولتها - أو دولها ـ الراعية.
لافت أن يبلغ هذا «التعاطف العربي» مــع تركيا ذروتــه متزامناً مع «المصالحة» التي اندفعت إليها حكومة أردوغان مع إسرائيل، متجاوزة مذبحة السفينة «مرمرة» التي كانت تنقل مساعدات إنسانية (أدوية وأطباء وممرضات وبعض المؤن) لأهالي غزة التي كانت (وما تزال) تحاصرها قوات الاحتلال الإسرائيلي براً وبحراً وجواً.
لقد عادت تركيا إلى موقع حليف إسرائيل الأقوى في المنطقة، بغض النظر عن ذلك الحادث العابر، والذي اجتهدت أنقرة في تغليفه بالطابع الإنساني البحت بعيداً عن السياسة.
لم تؤثر «إخوانية» حكم أردوغان على طموحه إلى تنسيب تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وإن كان الأوروبيون قد رفضوا وما زالوا يرفضون قبول هذه الدولة التي تحب أن ترى نفسها أوروبية ولا يراها الأوروبيون إلا دولة مسلمة (حتى من قبل أن يتصدّر حكمها «الإخوان المسلمون»)، وأن دخولها ناديهم سيفسد نقاءه الديني (الغربي).
ألا يستحق هذا القبول الرسمي العربي، ومعه القبول الرسمي الإسرائيلي، وكلاهما يقارب التحالف مع حكم أردوغان «الإخواني» في تركيا، التــوقف أمـــامــه ـ ولو قليلاً ـ لمحاولة تفسيره، بكل الملابسات التي يطرحها؟
لقد تصرّفت معظم أقطار الخليج العربي مع أردوغان على أنه ـ بصورة ما ـ حاميها وحارس دولها. تناست «إخوانيته» وطموحه إلى استكمال التغرب الذي باشره أتاتورك، قبل تسعين عاماً تقريباً، فألغى كل ما يذكر بإسلام تركيا ـ دولة الخلافة لفترة طويلة، ومعها الحرف العربي الذي كانت تكتب به لغتها، واعتبرته «حاميها» برغم موقعه الملتبس، الذي يكاد يكون تواطؤاً مع «داعش» في اجتياحه العراق واتخاذه الموصل عاصمة لـ «خلافته».. وكذلك موقفه كمشارك في الحرب على سوريا وفيها، وقبل ذلك وبعده موقفه المعادي لثورة «الميدان» في مصر، ومضيه في مساندة «الإخوان المسلمين»، برغم انتهاء حكمهم الذي بالكاد أكمل السنة قبل أن يسقط بالضربة الشعبية القاضية التي أنجز ختامها الجيش.
ما الذي يجمع بين حاكم تركيا «الإخواني» وحكام السعودية الوهابيين (المعادين لـ «الإخوان») وشيوخ إمارات الخليج المعادين لأي حزب أو تحزّب، لا سيما مَن كان شعاره إسلامياً يتضمن طعناً بإسلامية الدول الأخرى، حتى تلك التي تزعم أنها تحــكم بالشرع الإسلامي والتبعية للغرب الأميركي خاصة، وإسقاط العداوة عن إسرائيل؟
إن الانقلاب على الانقلاب الفاشل، وإجهاض احتمالات نجاحه نتيجة الارتباك بل الارتجال في تنفيذه وافتقاره إلى قيادة مؤهلة، وانكشافه مع تحريك أول دبابة، قد فتح الباب على مصراعيه أمام أردوغان لتصفية خصومه الفعليين أو المحتملين، في الحال أو في المستقبل، والتفرد بحكم البلاد ذات الموقع الاستراتيجي الفريد عند باب أوروبا (المقفل دونها).
ثمّ إن فشل هذا الانقلاب قد منح أردوغان الفرصة التي كان يسعى إليها ليحكم بلاد الأناضول منفرداً، فيحل قيادات الجيوش ويتخلص من خصومه جميعاً بعنوان غولين ومؤسساته المدنية واختراقاته في القضاء والتعليم والجيش والطيران خاصة، ثمّ مدارسه المنتشرة في معظم أرجاء تركيا.
لقد كان رجب طيب أردوغان «سلطاناً» من قبل الانقلاب الفاشل، وها هو يقدم نفسه الآن على أنه المنقذ ومتمم رسالة أتاتورك وحامي ديار المسلمين، وصولاً إلى الديار المقدسة، ولسوف تأتيه الهبات والشرهات والإعانات والتسهيلات التي يمكنها أن تحمي الاقتصاد التركي من الانهيار بغير طلب.
لكن السؤال الذي سيبقى معلقاً حتى إشعار آخر هو: أي تركيا ستكون بعد الانقلاب الدموي على الانقلاب الفاشل، وأي دور سيكون لها ولأردوغان في المنطقة بعد هذه الانتكاسة التي ربما أظهرته قوياً، في حين أنها أضعفت تركيا كثيراً وكشفت قمعية النظام فيها، أكثر مما لو نجح الانقلاب الفاشل!

عن السفير