عجائب شرق أوسطية

thumbgen (37)
حجم الخط
 

تأمل كل ما يجري في الشرق الأوسط وستشعر فورا بقدر غير قليل من «الدوخة»، لأنك لن تعرف أبدا أين يبدأ الشرق الأوسط وأين ينتهي. فهل يعد حدث إرهابي في نيس أو بروكسل أو باريس حدثا أوروبيا، أم أن حقيقة وجود أحياء عربية في قلب أوروبا تنتج أعدادا بلا حصر من الإرهابيين، تجعل منها امتدادا شرق أوسطيا، أم أنها نتيجة للحالة الأوروبية في التعامل مع الأجانب والعرب منهم خاصة؟ وهل حدوث محاولة انقلاب في تركيا تجعل منها حدثا شرق أوسطيا، أم أن علاقة تركيا بحلف الأطلنطي، وقيام الحلف بإغلاق قواعده فور إذاعة البيان الأول جعل الأمر حدثا عالميا له علاقة بالتوازن الدولي والحرب العالمية ضد الإرهاب؟ بالطبع يمكن أن نضرب أمثلة أخرى تجعل الشرق الأوسط مركزا للعالم، وموضعا أساسيا للاهتمام والحيرة العالمية. خذ مثلا ما جرى في الولايات المتحدة خلال الأسبوع الماضي الذي جعل جميع الساسة والشبكات الإعلامية تستعد لانعقاد مؤتمري الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهذه الأحداث لها طقوسها المعروفة من أول الضجة حول اختيار نائب الرئيس في الحزبين، ورغم أن المنصب ليس له أهمية كبيرة إلا في حالة وفاة الرئيس، فإن اختيار النائب يعد دلالة على مدى حصافة المرشح الرئاسي وقدرته على اتخاذ قرارات صعبة، حتى نصل إلى قبول المرشح بترشيح الحزب، وتبدأ عملية التخمين بنتائج الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني). كل ذلك تراجع إلى الخلف وأصبحت مشاهد الاستعداد للمؤتمرات الحزبية في خلفية الصورة. وبشكل ما، فإنها تعقّد حالة كل مرشح. فالسيد ترامب يستفيد في العادة من أحداث العنف والإرهاب؛ لأنها تؤكد الصورة التي يرسمها للعرب والمسلمين، ولكنها تسرق منه الكاميرا التي يعشقها وهو يشن حملاته على هيلاري، التي هي الأخرى تستفيد من الأحداث؛ لأنها تعبير عن عالم مضطرب ويحتاج إلى يد ثقيلة بالخبرة للتعامل معه، وليس شخصية هوجاء لا تعرف شيئا عن عالم معقد. في كل الأحوال، فإن الشرق الأوسط ينتقل بعيدا إلى أميركا، ويصبح جزءا من عالم بالغ العجب.
اختلاط الأمور ليس أمرا جديدا على الدنيا على أي حال، وربما كان الجديد هو إضافة مفاعل إعلامي يشع ضجيجا يجعل المتابعة مرهقة للمتابع، ولكن ذلك يمكن تخفيضه إذا ما كانت الأحداث تتمحور حول وقائع إرهابية مثل حادث نيس المذهل، ومحاولة الانقلاب التي جرت في تركيا والتي كانت مذهلة أيضا في حدوثها وفشلها في آن واحد. وقد كتبت من قبل في «داعش والداعشية» أن هزيمة «داعش» ممكنة، بل إنها من منطق الأشياء وتوازنات القوى، ولكننا الآن نلمس أن «الداعشية» مستمرة طالما أن الفكرة قد زرعت في ذهن شباب مسلم قلق، سواء كان يعيش وسط أهله في بلاد إسلامية، أو إذا كان يعيش بعيدا عنهم على هامش دول باتت تكره المسلمين، وهو في اغترابه لا يستطيع العودة ولا يملك البقاء. في الحالتين، في الداخل أو في الخارج، فإن ميدان المعركة يتسع، وفيما أعلم لا توجد استراتيجية لدى المسلمين أو العرب للتعامل معها. القضاء على «داعش» ممكن، سواء كان ذلك على الحدود العراقية السورية في «دولة الخلافة» المزعومة أو في سيناء أو حتى في ليبيا، ولكن «الداعشية» صعبة ومرهقة، ولكن لا يوجد لها حل اللهم إلا من خلال مؤتمر دولي لمحاربة الإرهاب، أو الفكرة الإرهابية. الفكرة قديمة، وحاول الرئيس المصري الأسبق الحديث عنها مرارا وتكرارا، قبل أن ينجح الإخوان في الإطاحة به. الفكرة على أي الأحوال لها جدارتها الذاتية، وربما يكون الطريق إليها من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي أو الجامعة العربية لكي تحشد ليس الجيوش وإنما الأفكار. هنا لا يحتاج الأمر إلى الدول ورؤسائها، وإنما إلى منظمات ومؤسسات فكرية ذات قدرة على المواجهة، ولديها الشجاعة في الاجتهاد والتعامل مع عصر مختلف فيه أجيال جديدة متوترة وساعية إلى الخلاص.
محاولة الانقلاب في تركيا هزت العالم، فبقدر ما كانت البداية فيه مفاجأة، فإن مشهد النهاية كان مهزلة محزنة. تفاصيل ما جرى بات معروفا الآن، وأسباب الفشل جرى فحصها، وبات كل ما هو معروف وثابت محنة جديدة تضاف إلى محن أخرى في منطقة زارتها زلازل وأعاصير. إردوغان بات عنوانا لتراجيديا مؤلمة؛ فرغم قدرته على إدارة حزب قوي ثبتت قدراته التنظيمية على الحشد والتعبئة ومواجهة الدبابات في الشوارع، بل إنه نجح في جذب كل قوى المعارضة حوله لكي تؤيد ديمقراطية وشرعية من نوع ما، فإنه مهما كان الاحتفال بعد كل ذلك، فإنّ غصة تسليم البلاد لبرنامج مرشح للاستبداد ظهر وجهها واضحا بإعادة طرح عقوبة الإعدام، وتوالي عمليات الإطاحة والعزل لخصوم في الجيش والقضاء وأجهزة ومؤسسات. نزلت مقصلة ما بعد الانقلاب لكي تخرج في النهاية تركيا من دوائر الثقة في فترة استحكمت فيها الحاجة إلى دولة متماسكة. النتيجة في النهاية عجب، فقد خرجت تركيا من الانقلاب، ولكنها دخلت نوعا من انقلاب آخر، ربما كان معنويا، وتغييرا في صيغة عاشت عليها تركيا خلال السنوات الماضية، ثم فجأة أصبحت شيئا آخر.
المسار الذي سار عليه الشرق الأوسط بات معوجا؛ فهو في جوهره قام أولا على مقاومة الإرهاب، وتجسد في تدمير «داعش»؛ وتوازى مع هذا المسار محاولة استعادة الدولة في سوريا وليبيا واليمن والعراق من خلال عمليات سياسية ودبلوماسية، ولم يكن هناك مانع من استخدام القوة العسكرية. لم يكن يفل الحديد إلا الحديد، وبات الزمن ممكنا أن يسير في اتجاه خلق تماسك إقليمي يدور حول تعبير واحد: الاستقرار مرة أخرى بعد أعوام من ربيع انتهى إلى عواصف وزوابع، وبعد ثورات خمدت على دول فاشلة. ولكن المسار سرعان ما بات له جديد، يأخذ شكل «الداعشية» أحيانا، ويأخذ شكل صدمة تفت في عضد واحدة من الدول الرئيسية في المنطقة، وتبدأ لعبة كراسي موسيقية أخرى تبحث عمن سيملأ الفراغ الجديد. المعضلة في الأول والآخر تبدو في غياب استراتيجية، هناك مشروعات للنمو، وأخرى لتجاوز آثار العنف، ولكن لا توجد خطة أو استراتيجية أو تصور للأمن الإقليمي يكون فيها ليس فقط ما يضمد جراحا، وإنما يكون فيها ما يعطي أملا في مستقبل أكثر إشراقا.
هل من الممكن تهيئة الظروف لأخذ مبادرة لكي تلتقي جماعة من أفضل العقول لوضع استراتيجية ما للخروج من سلسلة من الإخفاقات التاريخية إلى سلسلة مضادة للبناء الإقليمي يقوم على مبادئ تجعل الشرق الأوسط مماثلا ليس لأوروبا أو أميركا الشمالية أو حتى أميركا الجنوبية، وإنما لما استطاعت الوصول إليه في آسيا فكانت النمور والفهود وآسيان بعد فترة طويلة من الحروب في فيتنام وكمبوديا ولاوس وما وراءهما؟ أم أننا سننتظر من يضع لنا هذه الاستراتيجية، ساعتها لا تبكوا مرة أخرى على سايكس بيكو الجديدة؟

عن الشرق الأوسط