تيسير عاروري.. ملف سري

thumbgen (5)
حجم الخط
 

التقيت تيسير عاروري مرات عدة في الأعوام الأخيرة، آخرها عقب انطلاق هبّة تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. كانت اللقاءات ضمن مجموعات، فلم تسنح فرصة للقائه ثنائياً، رغم نيتي ذلك، خاصة أنّ هبّة العام الماضي كانت فرصة لحديث خاطف عن ذكرياته عن الانتفاضة الأولى، العام 1987، كما تحدث في مقابلات صحفية، بدءا من طريقة إصدار البيان السري للقيادة الوطنية الموحدة، حتى طرائف الانتفاضة.

تحدث عن حيرة ضابط الاحتلال وهو يعتقل واحدا تلو الآخر من القيادات، والبيان ما يزال يصدر. وكيف أسقط في يد الضابط عند اعتقال عاروري واستمرار البيانات. وعن بائع متجول وقف دون أن يدرك تحت لافتة كتب عليها رمز منظمة التحرير الفلسطينية "م. ت. ف"، وكيف أنه برر وقوفه هناك باختراع اختصارٍ آخر (لا أذكره تماماً) ولكنه أشبه بـ"مفيش تجمع في هذه النقطة".

عاروري من جيل ما بعد حرب 1967؛ فعندما وقعت الحرب كان في عمر الجامعة، وأبعد عن فلسطين العام 1988، في سن الثالثة والأربعين. وهو بالتالي يجسد نهاية شباب مرحلة أجيال سياسيي الداخل (1967) الأوائل. كان فيزيائياً، وأستاذاً للفيزياء بجامعة بيرزيت.

عندما تحدث في نهاية العام الماضي عَرَضاً عن مرحلة الانتفاضة الأولى، خطرت لي فكرة لم تنفذ: لو التقى قيادات الانتفاضة الأولى من أمثال عاروري، مع الشباب الآن؟

كان عاروري، ابن قرية برهام الجميلة برام الله، عضوا قياديا في الحزب الشيوعي الفلسطيني (حزب الشعب الآن). وكان الحزب ذا حضور كبير في الأراضي المحتلة حتى مطلع الثمانينيات، ويسيطر على كثير من الاتحادات والنقابات، وينافس حركتي "فتح" و"الجبهة الشعبية".

كثيراً ما نتحدث عن بقايا رعيل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، والفصائل الكبرى، وأنها على وشك الرحيل ولا بد من الانتهاء من توثيق تجربتها. لكن رحيل تيسير، يشير لخطورة عدم البدء الفعلي في توثيق رحيل جيل بدايات المقاومة في أراضي العام 1967.

عندما أُبعد العام 1988، من ضمن قيادات فلسطينية، وقّع 1200 من علماء العلوم الطبيعية، خصوصا الفيزياء والرياضيات، بينهم 18 من الحائزين على جائزة نوبل، عريضة تناصره؛ تقول إنّه "أستاذ الطبيعيات من جامعة بيرزيت بالضفة الغربية، رجل معروف ومحترم، ويشهد الكثيرون له بأنه من رجال السلام".

هو أستاذ الطبيعيات، في بيرزيت الجميلة، من برهام الجميلة، ولكن قصته مع الاحتلال تناقض كل ما هو طبيعي. وتثير أسى. فعدم توثيق التجربة تجده حتى في ملفات الاحتلال. في اعتقاله للمرة الأولى العام 1973، اعتقل إداريا، لمدة ثلاثة أشهر، كانت تجدد باستمرار. وفي الاعتقال الإداري لا يُخبر الأسير سبب اعتقاله. وبعد ثلاث سنوات في الاعتقال، تلقى عاروري من مدير السجن الجواب التالي: "رجال الأمن (المخابرات) بفكروا إنك بتفكر تعمل شيء ضد إسرائيل. عشان هيك حبسوك حتى ما تعمل إشي". وفي العام 1988، ورغم حشر 63 أسيرا في غرفة مساحتها 3 أمتار، قرأ تيسير نحو 200 كتاب.

وفي اعتقال وإبعاد 1988، كان في المحكمة ملفّان؛ عام وسري. كان الملف العلني مضحكاً، لأنه يحشد جهود عاروري للتوصل لحل سلمي؛ ومن بين أمور أخرى، إلقاء كلمة في تأبين غسان حرب، الذي وصف بأنه "الإرهابي الكبير"، مع أنّه صديق طفولة تيسير ويقوم بتعليم الاقتصاد في الجامعات الأميركية، وتوفي بمرض السرطان. وأقر القاضي أن التهم لا معنى لها، ولكنه برر قراره بالملف الشخصي السريّ الذي قال إنه "خطير".

عندما أُبعد إلى فرنسا، كانت الهواجس والقلق يأكلانه، وترك القلق سماته في وجهه حتى وفاته. يتحدث مع أحدهم فيهب واقفا للذهاب لمكتبته في مدينة البيرة في فلسطين، ليأتي بكتاب أو وثيقة، قبل أن يتذكر أنه في فرنسا. ويفكر أنه كان أستاذ فيزياء ناجحا في بلده، فهل سيكون فاشلا في جامعات فرنسا؟ ويفكر ويقول: كانوا يغلقون المدارس فنقوم بالتدريس المنزلي والشعبي، ويسجنوننا فنقوم بالقراءة والتعلم، ويهدمون بيت عائلة فتهب بلدته لاستضافته، والمسارعة لبناء بيت جديد.. "أما الإبعاد فهو الأقرب للإعدام".

لا يجوز أن تبقى الملفات الوطنية لتيسير وغيره سرية، بل يجب أن توثَق كُتبا ودراسات وأفلاما. والأهم أن يكون هناك كشف حساب بـ"لماذا يرحلون ولم تتحقق الأهداف؟".

عن الغد الأردنية