سألت وقرأت في محاولة جادة لتقدير أهمية، وربما خطورة هذه الدورة من الانتخابات الرئاسية الأميركية. أبدأ من حيث انتهت الجولة الأولى في هذه المحاولة. انتهت الجولة وانتهيت إلى اعتقاد بأن هذه الدورة من الانتخابات قد تثبت نفسها كواحدة من أهم الانتخابات التي جرت في أميركا. لا يهم في التحليل إن كانت هذه الانتخابات ستسفر عن فوز هيلاري كلينتون أو دونالد ترامب. ما يهم هو إن كانت ستسفر عن تطورات سياسية داخلية، وربما خارجية أيضاً، تغير من شكل النظام السياسي الأميركي وطبيعته.
نعرف من كتبنا الجامعية الأولية في دراسة أميركا أن تغيير النظام السياسي للولايات المتحدة قضية تلازمت وعملية وضع الأساس للنظام السياسي الأميركي. كانت الخشية الكبرى في ذلك الحين هي المتعلقة بالثغرات المحتملة التي يمكن أن ينفذ منها الغوغائيون إلى مناصب الحكم والمراكز المهمة في الدولة، ومنها يهيمنون ويبدلون ما شاء لهم عقلهم المرتبك أن يبدلوه في دستور البلاد. تطورت جهود مقاومة هذه الثغرات على مر السنين حتى اتخذت الشكل الذي نراه حالياً. رأيناه أيضاً في الرغبة المحمومة لدى مفكرين وسياسيين كثيرين تمردوا على النظام بالشكل الذي آل إليه، داعين في البداية إلى إصلاحه من الخارج، منتهين إلى ضرورة وحتمية الاشتباك معه من الداخل، وهو ما فعله ويفعله وسيفعله كل من بيرني ساندرز ودونالد ترامب.
جرت محاولات كثيرة على امتداد القرن العشرين كان هدفها إجراء إصلاحات جزئية. نذكر مثلاً محاولات روس بيرو، المليونير الغاضب على فساد العملية الانتخابية الذي راح ينفق على حملته من جيبه الخاص. اهتم بيرو وغيره من الإصلاحيين الذين جاؤوا بعده بمسألة التمويل، وبخاصة بعد أن أصبحت كلفة الانتخابات الرئاسية بالذات باهظة ولا تقوى عليها إلا المصالح الخاصة الكبرى. لاحظنا في هذه الانتخابات الأخيرة كيف راح ترامب يُشَهر بمنافسته كلينتون التي اعتمدت في حملتها على أموال المؤسسات المالية والمصرفية الكبرى، مركزاً على حقيقة أنه ينفق على حملته من جيبه الخاص، ومعه على الناحية الأخرى المرشح عن الحزب الديموقرطي ساندرز الذي ركَّز على اعتماده على تبرعات صغار الناخبين. إلا أن ما أقدم عليه الاثنان بتحديهما قواعد وقيادات الحزبين كان له الأثر الكبير في رفع مستوى التمرد على النظام السياسي من مجرد ظاهرة أحزاب الشاي التي ابتكرها متمردو الحزب الجمهوري إلى الرفض المعلن لتوجيهات «الآباء» السياسيين المتحكمين في الحزبين. وصل الأمر بأحدهما، وهو ساندرز إلى اعتبار هذه الانتخابات خطوة على طريق الثورة، وبالآخَر، أي ترامب، إلى اتهام قادة الحزبين بارتكاب جرائم تزوير والتلاعب بالعملية الانتخابية لخدمة مرشحين معينين. لذلك لم تفاجئني الضجَّة التي أثيرت حول تسريب رسائل إلكترونية متبادلة بين قادة الحزب الديموقراطي تحرض على نشر دعاية زائفة عن ساندرز، منافس هيلاري على تذكرة ترشيح الحزب، وتتهمه بأنه ملحد وتركز على أنه يهودي.
لم يخف مفكر مثل فوكوياما قلقه على استقرار أميركا السياسي نتيجة تصاعد لهجة الخطاب المتمرد على الطبقة السياسية. يعتقد هؤلاء أن إسقاط الطبقة السياسية سيؤدي حتماً إلى الفوضى. هؤلاء يعتقدون أن فوز ترامب سيحقق الفوضى المطلوبة. المثير في الموضوع هو أن الفوضى التي يخشون وقوعها في حال فوز ترامب هي بالفعل هدف من أهدافه لا يخفيه ولا يعتذر عنه. نُذُر الفوضى، كما يراها مفكرون أميركيون، واقعة بالفعل. واقعة منذ أن فقد الوسطاء الحزبيون والسياسيون والقادة المحليون وآلة الحزب الجمهوري سيطرتهم على جماهير ناخبي الحزب الذين انضموا بالملايين إلى قافلة ترامب الانتخابية بأقل جهد منه. هؤلاء لا يريدون الاعتراف بأنهم قصَّروا في دراسة الظاهرة والاستعداد لها حين كانوا يختارون منافسين لترامب. هم من دون استثناء لم يكونوا على مستوى الآلة الشعبوية الجبَّارة التي سلَّطها ترامب ضدهم، فسقط الستة عشر مرشحاً واحداً بعد الآخر. المعنى الكبير لهذا السقوط الجماعي ينعكس على حال ضعف شديد أصابت، كما قال أحد علماء السياسة، جهاز المناعة داخل الحزب الجمهوري. هذا الجهاز الذي كان يكتسب كفاءته من توافر خبرة قديمة ومتجددة داخل الحزب تجيد فنون الحلول الوسط وتدبير الأموال وحشد الناخبين وإقامة التحالفات، أو بمعنى آخر كفاءة اختيار المرشحين للوظيفة السياسية، سواء أكانوا مرشحين لمجلس النواب أو لرئاسة الجمهورية أو للوظائف الأصغر جداً في فروع الحزب في المقاطعات.
أعتقد، بناءً على الشواهد الأوَّلية، بأن بعض القواعد الدستورية التي قام على أساسها النظام السياسي الأميركي وكان هدفها منع تسرب الغوغائية إلى النظام هي أحد أهم أسباب نجاح تسربها في العقود الماضية، تحت مسميات أخرى، مثل الإرادة العامة، أو مصلحة الجماهير الواسعة، من دون أن تقام مقامها قواعد حديثة تراعي التغيرات في حجم الفساد وأساليبه وفي النظام الطبقي وفي تطلعات وأحجام الأقليات الدينية والعرقية. لاحظنا مثلاً، وهو الأمر الذي ينطبق على الحزبين، عجز القيادات الحزبية المحلية عن إدارة مسألة الشباب كعنصر حاسم في السباق الانتخابي بسبب ميلهم المتعاظم إلى دعم الشعارات الثورية أو المتمردة.
لفت فضولي صديق من علماء السياسة في أميركا حين قارن بين السلوك المعيب من جانب أجهزة الدولة في دول الربيع العربي في التعامل مع ثورات المنطقة، وبين السلوك المرتبك وغير المنظم من جانب قيادات الآلة السياسية الأميركية في التعامل مع القطاعات المتمردة أو الثائرة في المجتمع الأميركي. في الحالين لم يتوافر الاستعداد للاستفادة من طاقة الثورة لتجديد الدولة والسياسة ومواجهة اللامساواة وقوى المال الفاسد أو المتسلط. «نعرف أن الكارثة كانت من نصيب دول الربيع التي أساء المسؤولون فيها التصرف، وربما لا يزالون، وأضاعوا فرصة الاستفادة من الثورة، ونخشى أن يكون علينا كأميركيين دفع الثمن باهظاً بسبب السلوك المتهالك وغير الكُفء من جانب عناصر متحجرة في النظام السياسي الأميركي».
من جانبي أعربت عن اعتقادي بأن هذه الانتخابات، أياً كانت نتائجها، ستترك بصماتها على منظومة السياسة الخارجية الأميركية. يكفي أن أشير هنا إلى التأثيرات نتيجة الفوضى المحتمل وقوعها في أجهزة صنع القرار والسياسة، وتداعيات الإعلانات والشعارات الاشتراكية التي رفعها ساندرز خلال الحملة وأصرَّ على اصطحابها معه إلى قلب الحزب الديموقراطي. ولا تفوتنا حقيقة أن كلينتون لن تكون، في حال فوزها، رئيسة لكل الأميركيين، فالاستقطاب في أميركا تفاقم متجاوزاً معظم الحدود.
* كاتب مصري
عن الحياة اللندنية