مـفـهــوم الأمـــن الإســـرائـيـلــي تحــطّـم: "مـيـزان الرعـب".. بـديـلاً

اسرائيل
حجم الخط
منذ انتهاء حملة «الجرف الصامد» تتراكم مظاهر الشقوق العميقة في مفهوم الأمن التقليدي لإسرائيل، ذاك المفهوم الذي وضعه دافيد بن غوريون قبل 65 سنة. في مركز هذا المفهوم يقف الردع، الأخطار، الحسم، وأضيف اليها في السنوات الاخيرة مدماك الدفاع. ومؤخراً يطرح جنرالات متقاعدون وفي سلك الخدمة الفاعلة شكوكا تتعلق بنجاعة الردع، ويشرح الخبراء لماذا من الصعب جدا تحقيق الحسم اليوم، وتوقعات الجهات المخولة في قيادة الجبهة الداخلية والتي تفيد بأن المواجهة التالية مع «حزب الله» قد يسقط فيها أكثر من الف صاروخ في اليوم، تضع علامة استفهام كبيرة على عنصر الدفاع.
وتبشر هذه الشقوق والتي تتسع مع كل يوم، بان مفهوم الأمن الاسرائيلي، والذي يكمن في أساسه الإيمان في ان قدراتنا العسكرية ستساعدنا في يوم الامر على مواجهة كل تحدي، قد أفلس.
ولا يعود السبب في ذلك الى أن الجيش الاسرائيلي ليس قويا بما يكفي، بل العكس هو الصحيح. فتفوقه على الجيوش العربية الخصمة واضح اليوم اكثر من أي وقت مضى، ولا يوجد خطر في أن يتبدد هذا التفوق، حتى في ظروف الازمة المستمرة في العلاقات مع الولايات المتحدة. والسبب هو أن التطورات التكنولوجية جعلت السلاح الصاروخي الهجومي زهيدا وسهلا على الانتاج، التسلح، والاستخدام. وحتى الان، رغم الكثير من الجهود والاستثمارات الكبرى، لم يتوفر جواب دفاعي ناجح على استخدام مثل هذا السلاح بكميات كبيرة. وفي مثل هذه الظروف فانه حتى منظمة صغيرة مثل «حماس» يمكنها أن تهدد قلب دولة اسرائيل، وتتسبب بوقف الطيران الدولي منها وإليها. وميليشيا مثل «حزب الله»، المنظمة التي يبلغ عدد المجندين فيها كعدد الجنود في فرقة واحدة من الجيش الاسرائيلي، يمكنها أن تجبي من اسرائيل ثمنا باهظا، أعلى من الثمن الذي نجحت أكثر الجيوش العربية قوة في جبايته من إسرائيل في أي وقت في الماضي.
لا يدور الحديث فقط عن المواطنين الذين سيقتلون، المنازل التي ستدمر، وقواعد الجيش الاسرائيلي التي ستصاب بأذى، بل يدور الحديث أيضا عن البنى التحتية. 
فماذا سيحصل مثلاً، إذا ما أصابت صلية من الصواريخ التي تحمل رؤوسا متفجرة بنصف طن وذات دقة عالية نسبيا محطة توليد الطاقة في الخضيرة؟ يمكن أن نتصور كيف ستبدو دولة اسرائيل بعد إصابة بهذه الشدة لانتاج الكهرباء فيها وبعد اصابات مشابهة. ومع كل الاحترام لـ «العصا السحرية»، فانه بقدر ما هو معروف ليس للجيش الاسرائيلي جواب مقنع على مثل هذا التهديد.
ان معنى قدرة منظمتي «حماس» و»حزب الله» على توجيه ضربات قاسية لإسرائيل هو أن مفهوم الامن التقليدي الذي يعتمد على اليد الطويلة للجيش الاسرائيلي واليد القصيرة للعدو لم يعد ساري المفعول. 
فمع أن يدنا أطول وأقوى، ولكن يدهم ايضا قويت وليس لدينا القدرة على منعهم من استخدامها وتوجيه ضربات أليمة ضدنا. بكلمات أخرى، فان التفوق الإسرائيلي المطلق اختفى. 
ما يحل محله هو ميزان رعب يمكن فيه سواء لإسرائيل او لخصومها ان تؤلم الواحدة الاخرى، ولكن لا يمكنهما أن يمنعا الألم من أن يقع.
لقد ولد مفهوم «ميزان الرعب» في عهد الحرب الباردة، حين توصلت القوتان العظميان الى قدرة على ابادة الواحدة الاخرى، وانتقلتا الى الاعتماد على استخدام التهديد بإبادة الخصم بدلا من قدرة الدفاع، كي تضمن بقاءها. لا تزال اسرائيل لا توجد في مثل هذا الوضع، وطالما ليس لخصومها سلاح نووي فانها لن تقترب منه ايضا. 
ومع ذلك، تكفي ترسانة الصواريخ الفتاكة، ولا سيما ترسانة «حزب الله»، كي تضعنا في مكان خطير وقابل للاصابة، لا يمكننا فيه أن ندافع عن أنفسنا بشكل ناجع على نحو كاف. ولما كانت سياسة الأمن القومي ملزمة أن توفر حزام الدرع الاكثر نجاعة لقيم الامة بما فيها حياة المواطنين وجودة حياتهم، فقد حان الوقت لهجر التفكير القديم والانتقال الى سياسة في أساسها يقبع مفهوم «ميزان الردع» بكل معانيه العملية.
توماس شلينغ، من عظماء الاستراتيجيين في الولايات المتحدة في عهد الحرب الباردة، كتب في كتابه «التسلح والنفوذ» (اصدار وزارة الدفاع، 1981)، انه «لو كان ألمه (ألم الخصم) في بهجاتنا ومتعتنا الكبرى في مشاكله، لكنا توقفنا عن التسبب بالالم وإحباط أحدنا للاخر». لم يكن هذا هو الوضع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وليس هذا هو الوضع بيننا وبين «حزب الله» و»حماس». ورغم الخطاب التهديدي من هاتين المنظمتين، يثبت الواقع أنهما تفضلان التعايش الى جانب إسرائيل على الصدامات الكثيفة معها، والتي تلحق بهما أضراراً جسيمة، بل قد تؤدي إلى تصفيتهما.
في مثل هذه الظروف على واضعي سياسة الأمن القومي ان يستوعبوا التغييرات الدراماتيكية التي تجتازها وتواصل اجتيازها ساحة النزاع،  وأن يغيروا بشكل راديكالي مفهوم الأمن بما يتناسب مع ذلك. وفي مركز التغييرات: الاعتراف بان الجيش الاسرائيلي وحده لا يمكنه أن يوفر الأمن اللازم لنا؛ استغلال كل امكانية لتلطيف حدة النزاع، بما في ذلك حيال ايران وفروعها، من خلال التقدم في المسار السياسي؛ والعمل على التنمية الاقتصادية المدنية في قطاع غزة كي يكون لنظام «حماس» الكثير مما يخسره في الجولة التالية. بدون كل هذا سنعلق في جولات اخرى من المواجهة، سنجد على مدى الزمن صعوبة في الصمود فيها.
عن «هآرتس»

* بروفيسور يدرّس في دائرة العلاقات الدولية في جامعة حيفا.