دأب خطاب الإسلام السياسي على تصوير كل حربٍ تُشَن ضد أي بلد إسلامي، أو أي اعتداء تتعرض له طائفة من المسلمين على أنه هجوم على الإسلام، وأحيانا يتم ربط ذلك بالحروب الصليبية، أو بمؤامرة كونية تستهدف استئصال الإسلام من جذوره، والقضاء عليه.. لا شك أن البعض ينطلق في هذه النظرة من إحساس فطري بالخطر، ومن باب الاهتمام بشؤون المسلمين، بيد أنَّ آخرين بالغوا في تصوير هذا الخطر وأوّلوه لأغراض سياسية وحزبية، ومن أجل استقطاب المزيد من المؤيدين، تحت تأثير الشعور بالاستهداف، وضرورة التكتل ضد التهديدات الخارجية.
وفي المقابل سعى الإعلام الغربي لإظهار المسلمين بصورة المعتدي، وربط سلوكهم بالإرهاب والتخلف. والسؤال، أين هي الحقيقة؟ وهل كل ما يقوله الإعلام الغربي كذب وافتراء؟ هل هنالك بالفعل حرب على الإسلام؟!
مع أن الحضارة الإنسانية تجاوزت زمن الاضطهاد الديني، إلا أن طوائف دينية كثيرة، في مختلف أنحاء العالم ما زالت تتعرض لحملات تصفية وتطهير. ويبدو أن الأحقاد الدينية ما زالت كامنة في صدور البعض من رجال الدين المتعصبين، أو لدى فئات معينة من الغوغاء المتأثرين بالخطاب السائد.. لكن المحرك الرئيس لكل الصراعات والحروب على مر التاريخ، ليس له علاقة بالدين، إلا بقدر استغلال هذا الدين للتمويه على الأسباب الحقيقية للصراع، وهي غالبا أسباب اقتصادية، أو سياسية في إطار الصراع على السلطة، أو قبلية في سياق النزاع على النفوذ والمصالح، أو حتى لأسباب شخصية.. وحتى الحروب الدينية، التي تبدو خارجيا صراعات عقائدية، في جوهرها صراعات طائفية بين مذاهب وجماعات تباينت مصالحها وحدودها وهوياتها، ولكنها تدثرت برداء الدين.
ومن المهم تذكر أن المسلمين ليسوا هم الوحيدين الذين تعرضوا للحروب؛ فأغلب الشعوب والطوائف تقاتلت فيما بينها، ومن داخل نفس الدين، وحتى من نفس الطائفة.. ولعل أفظع الحروب الدينية تلك التي جرت في أوروبا بين المسيحيين أنفسهم.. وليس بعيدا عنا الحربان العالميتان الأولى والثانية، واللتان كانتا صراعا عنيفا في داخل العالم الغربي ذاته.
في هذا السياق، ظهر مؤخرا مصطلح «صراع الحضارات»، ويعد د. «المهدي المنجرة» أول من أطلقه، في حوار أجرته معه مجلة المرآة الألمانية 1991، بعده بسنتين، نشر «هنتنغتون» كتابه «صراع الحضارات»، والذي كان رداً على نظرية «نهاية التاريخ»، التي طرحها تلميذه «فرانسيس فوكوياما» صيف 1989، والتي تقول إنه مع نهاية الحرب الباردة ستكون الديمقراطية الليبرالية الشكل الغالب على الأنظمة في مختلف أنحاء العالم.
فكان رد «هنتنغتون» بأن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية، أو بسبب اختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون بسبب الاختلافات الثقافية، التي ستصبح المحرك الرئيس للنزاعات بين البشر في السنين القادمة.
ولخص فكرته في عبارة مركزة، وهي: «إن حدود الإسلام دموية وكذلك أحشاؤه»، وهي أكثر عبارة أثارت ردود فعل حادة في أنحاء كثيرة من العالم.
فإذا اعتقد «فوكوياما» أن حركة التاريخ والحضارة الإنسانية ستتوقفان عند الديمقراطية الليبرالية؛ فإن «هنتنغتون» زعم بأن الصراعات الثقافية ستشعل حروب المنطقة لأمد طويل.. وأن الحضارات لن تلتقي فيما بينها، بل ستظل في حالة صراع.
المفكر الفلسطيني «إدوارد سعيد» اعتبر أن «هنتنغتون» وغيره عندما صاغوا نظرياتهم لم يجدوا الوقت الكافي لدراسة الحركات الداخلية في كل حضارة، وما فيها من التعددية، معتبرا أن النظر لأية حضارة أو دين والتحدث عنهما بصورة كلية عمومية هو نوع من الديماغوجيا والتضليل، أو الجهل على الأقل.
إذ يصعب الحديث عن الإسلام أو الغرب باستعمال توصيفات عمومية، حيث يوجد واقع تاريخي متشابك يستعصي على التصنيف أحيانا، أو التثبيت في قوالب جاهزة؛ فالعالم أجمع بكل دياناته وحضاراته يسبح في محيط واحد والذي هو التاريخ الإنساني، ومن العبث محاولة حرثه أو تقسيمه بالحواجز.
وقد وصف إدوارد سعيد «هنتنغتون» بأنه أيديولوجي يريد تحويل الحضارات والهويات إلى غير ما هي عليه في حقيقتها، فالحضارات ليست كيانات منغلقة عن بعضها البعض، بل تتداخل في أحشائها وفيما بينها التيارات والتيارات المعاكسة لتشكل تاريخ الإنسانية، وتمنع هذا التاريخ عبر القرون المتوالية من الاقتصار على الحروب الدينية والإمبريالية، بل أن يكون أيضاً مجالا للتعاون والإخصاب المتبادل والمشاركة، فالحرب ليست وحدها هي الحقيقة. (سعيد، إسرائيل، العراق، الولايات المتحدة، ص107).
بمعنى أن الحضارة الإنسانية في مسيرة تطورها أخذت مسارين منفصلين، كانا يتقاطعان حينا، ويتوازيان أحيانا، المسار الأول سلك طريق العنف والصراعات والحروب والاستعمار.. أما المسار الثاني، فتمثل في التبادل الثقافي بين الشعوب، والتعاون، والتشارك العالمي في بناء الحضارة الإنسانية، والتوحد في مواجهة الأخطار والتحديات التي تهدد العالم بأسره.
ففي نفس الوقت الذي تغزو فيه الجيوش الإمبريالية بلدان العالم الثالث، وتدير مخابراتها وتحرك حروباً داخلية كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها، خدمة لمصالحها.. هناك أيضا أوجه عديدة للمسار الثاني؛ حيث تقدم دول الشمال مساعدات مهمة لدول الجنوب في مجالات التعليم، والصحة، والإغاثة، والبيئة، والزراعة، والأمن الغذائي، وتطوير البنى التحتية، والتضامن الإنساني والتدخل وقت الكوارث.. إلى جانب المؤسسات الدولية التي تعنى بنشر مفاهيم العولمة والحداثة (بالمقاييس الغربية) في مجالات الديمقراطية، وحقوق الإنسان والمرأة والطفولة.
قد يقول البعض إنها مجبرة على اتخاذ هذا المسار (أو مستفيدة)، لكن علينا أن لا نتجاهل أنه بينما كانت النخب المسيطرة تصنع الحروب، كانت الشعوب بنخبها المثقفة وقواها الحية تفتح قنوات عديدة فيما بينها، في حقول الفن والأدب والرياضة والموسيقى والبحث العلمي والتكنولوجيا والتبادل الثقافي بمختلف أشكاله.. والتي بمجملها كانت تصب في تيار الحضارة الإنسانية.
صحيح أن البشرية قطعت أشواطا مهمة في مسيرتها نحو التحضر والإنسانية، إلا أنها لم تبرأ تماما من أمراضها وجنونها.. والهوة بين دول الشمال والجنوب ما زالت كبيرة، وهي بحاجة للكثير من الوقت والنضال حتى تصل إلى المستوى المأمول، ذلك لأنها في مسيرتها تلك تتجاذبها قوى كثيرة، منها ما يدفعها نحو المستقبل، ومنها ما يشدها للماضي.
وفاة الأسير المحرر فهد زعرور من جنين بعد صراع مع المرض
28 سبتمبر 2023