إعادة تأهيل النظام السعودي أميركياً: فلسطين تدفع الثمن!

thumbgen (12)
حجم الخط
 

إذا كانت هناك تساؤلات حول استحقاقات زيارة اللواء أنور عشقي للكيان الإسرائيلي، فقد أجاب عن أهمها أحد أعضاء الوفد المرافق، وهو السيد عبد الحميد الحكيم الذي «اكتشف» أن الخطأ يكمن في قصور الفهم العربي والفلسطيني للمجتمع الإسرائيلي الذي «يحب الحياة» ولا يؤمن «بثقافة الموت». ففي مداخلته في برنامج «نقطة حوار» على قناة «بي. بي. سي.»، شرح لنا الحكيم أن المشكلة ليست «في المساحات» بل في غياب الثقة، أي أن لا علاقة لها بجذور الصراع. وقد أعاد علينا ترنيمة «بناء الثقة بين الطرفين»، وهي ترنيمة أميركية - إسرائيلية تعني عملياً وقف أشكال المقاومة الفلسطينية كافة فيما يستمر ابتلاع الأراضي وتشريد الشعب الفلسطيني.
الاستحقاق هنا لا يتمثل بالتطبيع أو قبول الاحتلال فحسب، بل هو أسوأ من بذلك بكثير. فالحكيم يردّد الدعاية الصهيونية بأريحية عجيبة. وعليه فإن الاحتلال إذا وجد يغدو مجرد تفصيل صغير يمكن التغاضي عنه، وسوف يختفي من مخيلتنا إذا فهمنا المجتمع والمؤسسة الإسرائيليين. والوفد كما يبدو لم يرَ ولا سمع شيئاً عن مستوطنات وجدار عنصري أو معاناة.
المطلوب إذاً، هو إضفاء الشرعية الأخلاقية على المؤسسة الإسرائيلية مقابل إعادة «تأهيل الدور السعودي» وتثبيت دور نظامها الوظيفي أميركياً. ولا يتم ذلك لأي نظام عربي إلا عبر بوابة اللوبي الصهيوني وعتاة اليمين الأميركي. فلم تعد اللقاءات السرية تكفي، بل بات واجباً أن تكون علنية وأن يقوم أعضاء الوفد بـ «تنوير» العالم العربي» وربما العالم حول سلمية مؤسسة الاحتلال الإسرائيلية.
المشين أن تسمح السلطة الفلسطينية لنفسها (بالتحديد السيد جبريل الرجوب) بأن تكون غطاء لمثل هذه الزيارة، التي تشكل جزءاً من عملية سياسية أوسع لا مكان فيها للحقوق الفلسطينية ولا حتى لوجهة النظر الفلسطينية الرسمية، على هشاشتها. فالزيارة تم تنسيقها مع الإسرائيليين منذ أوائل شهر حزيران على الأقل، ولم يتمثل دور السلطة سوى بتوجيه دعوة لزيارة «الأراضي الواقعة تحت إدارتها»، من دون أي تأثير على انطباعات الوفد السعودي المعبأ بالدعاية الصهيونية والذي لا يفهم غيرها.
والزيارة، وإن لم تكن الأولى، كما كشف الرجوب، تبعت لقاءً مهماً بين اللواء عشقي ودوري غولد، وذلك قبل تولي الأخير منصبه كمدير عام للخارجية الإسرائيلية بفترة وجيزة، في ندوة علنية في «مركز العلاقات الخارجية الأميركية»، أدارها اليميني الصهيوني أليوت أبرامز، المستشار السابق للرئيسين جورج بوش الإبن ورونالد ريغان، وأحد أهم مديري عصابات الموت المموّلة أميركياً ضد الثوريين في السلفادور ونيكاراغوا في السبعينيات من القرن الماضي.
وقد شهدت الندوة التي انعقدت في الرابع من حزيران أكثر من مصافحة علنية بين الرجلين. وأعلن الطرفان خلالها أن إيران هي الخطر الذي يتهدد المنطقة، وكشفا عن محادثات سرية سعودية - إسرائيلية بدأت في العام 2014 حول مواجهة طهران بتوافق تام، وهو ما كان ينبئ بخطوات علنية أخرى. لكن دخول السلطة الفلسطينية على الخط، ساعد الجهة الداعية على تمويه تفاهمات ثنائية تتم في أميركا وعواصم أخرى بين الجانبين السعودي والإسرائيلي.
دوري غولد، المعادي لما يُسمّى «عملية السلام»، قال بعد لقائه عشقي في نيويورك إنه أصبح مقتنعاً بأن «السلام مع الدول العربية هو مدخل للسلام مع الفلسطينيين وليس العكس». وذلك يعني عملياً التطبيع الكامل مع دول عربية رئيسية، أهمها من منظوره السعودية، وبالتالي محاصرة الفلسطينيين سياسياً. كل هذا بعدما كان غولد من أكبر المناهضين للسعودية التي سمّاها مملكة التحريض في كتاب من تأليفه يحمل الاسم نفسه.
التغيير في اللهجة الإسرائيلية نحو العائلة السعودية الحاكمة لم يأت من فراغ. إذ هناك استنتاج إسرائيلي مفاده أن الاتفاق النووي الأميركي - الإيراني أضرّ بكل من الرياض وتل أبيب. والتحليل السائد في أوساط المراكز الصهيونية أن النظام السعودي يخاف من تخلي أميركا عنه لصالح إيران، خاصة أنها لن تعتمد على النفط لسد احتياجاتها كما في السابق. بالتالي فقد وجد اللوبي الصهيوني فرصته لفرض شروطه، مستغلاً لهفة العائلة المالكة لاستعادة مكانتها في واشنطن. علماً أن تل أبيب تشارك السعودية خوفها من انسحاب أميركي من الشرق الأوسط باتجاه جنوب شرق آسيا، تفقد معه تل أبيب قيمتها في الاستراتيجة القومية الأميركية.
الرياض رضخت بسرعة، خاصة تحت تأثير ما يُسمّى بـ «أوراق 9/11 السعودية». وقد شهدنا تحوّل الضجة حول ضلوع أمراء سعوديين، مباشرة أو بشكل غير مباشر، في تفجيرات العام 2001، إلى خفوت للأصوات الاتهامية. بل شهدنا باحثين صهاينة أمثال سيمون هندرسون ينتقلون من مناداتهم بتقسيم السعودية إلى إعطاء فرصة للتقارب السعودي ـ الإسرائيلي.
النظام السعودي لن يتوقف عن محاولاته إظهار وجه «معتدل» أمام أميركا وإسرائيل، يُعوَّل عليه كممثل لـ «العرب والمسلمين السنة» لدخول إسرائيل في العالم العربي والإسلامي. كل ذلك تمهيدٌ لحكم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يقدم نفسه على أنه يمثل مستقبل السعودية المنفتح، الغربي الهوى، في حملة إعلامية تكاد تكون كرتونية لناحية سطحيتها.
القصر السعودي دخل متاهة خطيرة قد لا يستطيع التراجع عنها. فإسرائيل لن تكتفي بوفد «غير رسمي». أما السلطة الفلسطينية فلا مبرر يشفع لها. إذ شكلت غطاء لزيارة تكمن أهميتها في علنيتها. فالوفد السعودي لم يهمه سوى النجاح في الاختبار الإسرائيلي، أما مروره على السلطة أو لقاؤه حتى بـ «حزب ميرتس» الإسرائيلي الناقد للاحتلال، فلم يكن إلا من مستلزمات إعطاء صدقية مزيفة للمهمة الأصلية. فالمحادثات الأهم جرت بمعزل عن هؤلاء جميعاً مع دوري غولد، والأخير ليس إلا واحداً من أهم مستشاري رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتياهو.

عن السفير