الانتخابات البلدية: الصورة الفلسطينية الأخرى

د.عاطف أبو سيف
حجم الخط

ينحصر النشاط السياسي الداخلي الفلسطيني اليوم في إنجاز الانتخابات البلدية التي تأتي بعد عشر سنوات من الانتخابات التشريعية الأخيرة وأكثر منها من الانتخابات البلدية.
سنوات سيسجل التاريخ أنها الأسوأ في تاريخ الشعب الفلسطيني حيث أريق خلالها الدم الفلسطيني دون أدنى خجل ولا وازع ضمير من أجل الهيمنة والكرسي وحيث تبدلت صورة الشعب الفلسطيني الذي يتعاضد ويتكاتف في نضاله ضد المحتل الغازي بصور سيئة من القتل والنهب.
ولم يتوقف الأمر على ذلك بل إن سنوات الانقسام البغيضة التي تلت ذلك شهدت ممارسات أيضاً ساهمت في تعزيز ما تروج له الدعاية الصهيونية من أن هذا الشعب لا يستطيع أن يحكم نفسه، ممارسات شملت الاعتقال السياسي والتنكيل وقمع الحريات.
الآن الصورة مختلفة. الصورة أجمل. على الأقل ثمة صورة جديدة تخرج للعالم من فلسطين.
صورة لا يكون الاقتتال والشقاق عنوانها، ولا تكون الكراهية التي وصلت حد السادية شعارها، ولا يكون البحث عن الذات على حساب الوطن أول سطر فيها، صورة تقول إن فلسطين التي عرفت أول التكوينات البشرية والحضرية والسياسية في التاريخ، فلسطين الذي قُدر لها أن تقاتل الغزاة منذ فجر الحضارة، فلسطين تنتخب.
الصورة الحقيقية التي يجب أن نعمل على تصديرها بشكل جيد، هي صورة المرأة الفلسطينية وهي تضع ورقة الاقتراع في صندوق الاقتراع، صورة الشبان يصطفون طوابير من أجل ممارسة حقهم في اختيار من يدير بلدياتهم، صورة الأطفال يتحلقون حول آبائهم في يوم الانتخابات يتطلعون إلى مستقبل باهر، يحلمون بحياة أفضل، الحياة التي يستحقونها، الحياة التي ذهبت أرواح الشهداء من أجلها.
إن فضيلة الانتخابات الأولى، بجانب أشياء كثيرة بالطبع، أنها ستقدم صورة مختلفة عن الشعب الفلسطيني، صورة أكل الانقلاب وأحداثه الدامية وسنوات الانقسام التي تلته أجمل ما فيها.
الفلسطيني الذي كانت صورته أمام العالم إما حاملاً للسلاح يقاوم الاحتلال أو هادراً في مسيرات تطالب بحقه، تشوهت صورته خلال تلك السنوات العجاف حتى بات الشهداء يخجلون منا وهم ينظرون إلى واقعنا الأسود غير مصدقين بأننا فعلنا هذا بتاريخهم وعطائهم وتضحياتهم.
الآن نعتذر لهم ونقول لهم إن الصورة الحقيقية باتت هي التي تتصدر الحديث عن فلسطين.
فقط عبر إنجاح هذه الانتخابات يمكن للصورة أن تكتمل، يمكن لها أن تصبح حقيقة، ويمكن للقصة أن تصل ذروتها.
الذروة التي يكون فيها الكل الفلسطيني مشاركاً في صناعة اللحظة، اللحظة الفلسطينية الحقيقية، اللحظة التي تعبر عن جوهر النضال الفلسطيني، ولا تمحو ذكرياته.
إن أبغض ما نتج عن الانقسام هو أنه نجح في أن يجعلنا لا نفكر في شيء إلا في تفاصيل الحياة العادية. صارت المشاكل اليومية هي همنا وحلها هو حلمنا. حين تكتمل الصورة يمكن للشهداء أن يرتاحوا قليلاً، ويمكن لنا أن نتذكر تلك اللحظات الجميلة التي كان الكل فيها منهمكاً في البحث عن الصالح العام.
الصالح العام الضحية الأولى للانقسام. فقط حين تكتمل الصورة يمكن لنا أن نتنفس الصعداء.
يمكن لنا أن نكون متأكدين أن أول المسامير قد دقت في نعش الانقسام، وأننا بتنا أقرب قليلاً – ربما ليس كثيرا - ولكننا قريبون بما يكفي حتى نقول إننا تحركنا في الاتجاه الصحيح.
فقط حين ننجز المهمة يمكن للصورة أن تكون اكتملت.
حين تنتهي الانتخابات دون مشاكل ولا أزمات ولا توترات يمكن لنا أن نقول إننا نجحنا.
ففشل الانتخابات وتحويلها إلى ساحة أخرى من الاحتراب يعني أننا فشلنا في إزالة فشلنا، وأننا نصر على أن نقدم صورتنا السيئة للعالم، الصورة التي لا تعبر عنا.
لا أحد يستطيع أن ينفي النزعة التنافسية التي تهمين على النشاط الانتخابي.
فكل تنظيم يريد أن يثبت أنه مازال يتمتع بالدعم الجماهيري الكافي والذي يعبر عن حجم التفاف الناس حوله، خاصة حين يتعلق الأمر بالتنظيمين الكبيرين، لكن يجب أن لا يتحول الأمر إلى صراع آخر، إلى اقتتال جديد.
فالانتخابات سمتها التنافس ووقودها التباري على قلوب وعقول الناخبين، لكن يجب ألا نتوه في خضم كل ذلك وتصبح شهوة الفوز أهم من إجراء الانتخابات ذاتها.
يجب أن نظل متمسكين بتلك الصورة النبيلة التي تمت فيها الانتخابات التشريعية والتي سجلت فيها السلطة الفلسطينية أنها النظام السياسي العربي الوحيد الذي يمكن لحزب معارضة أن يفوز في الانتخابات ويقوم الحزب الحاكم (اصطلاحاً) بتسليمه مقاليد السلطة.
إنها الصورة التي جعلت فلسطين في مقدمة الدول العربية ديمقراطياً بكل المقاييس.
وحتى ينجح هذا لا بد من توسيع هامش الحريات العامة والسياسية.
فمثلاً لا يعقل أن تخوض فتح الانتخابات فيما مكاتبها كلها مغلقة بل إن بعضها إلى اليوم مركز أمني يعتقل فيه أبناء فتح.
من حق فتح التنظيم الكبير الذي ينافس بقوة على صدارة الانتخابات، أن تكون له مكاتب يمارس من خلالها نشاطه الانتخابي.
هذا قد يكون أبسط ما يمكن لفتح أن تطلبه في ظل تأجيل كل ملفات الانقسام التي تشمل الاعتقال السياسي وإطلاق سراح المعتقلين.
حرية العمل السياسي والحزبي أساس نجاح الانتخابات، فالحرية جوهر الممارسة الانتخابية، وهي في قلب العمل الحزبي والتنافس السلمي، لأن هذا مؤشر على مدى الحق في التنافس بعد أن تبدأ الحملات الادعائية.
وحتى تنجح الانتخابات يجب أن نظل نؤمن بأنها الطريق الوحيد حتى ينتهي الانقسام، وإذا آمنا بذلك يجب أن نتغلب على بعض كبريائنا ونتعالى على جراحنا ونسمو على أنفسنا، لأن الله لا «يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، ولأن الإنسان وإرادته هي مركز التغير.
وإذا كان الأمر كذلك فإنها فرصة حتى نبدأ صفحة جديدة نكون فيها مختلفين عما كنا قبل ذلك، وحتى نعتذر لمحمود درويش ونقول له: نحن منذ الآن نحن.