حتى قبل الانقسام ومنذ الانتخابات الأولى عام 1996 حذرنا من الأهداف الخفية لواشنطن وتل أبيب وإصرارهم على إدراج الانتخابات كجزء من الاتفاق ، حيث إن هؤلاء لم يكن هدفهم تعليم الشعب الفلسطيني الديمقراطية والالتزام بمن ينتخبهم الشعب بل تغيير طبيعة الصراع ، من صراع الكل الفلسطيني في مواجهة الاحتلال إلى صراع الفلسطينيين مع بعضهم البعض على السلطة ومنافعها ، وجاءت الانتخابات التشريعية في يناير 2006 لتؤكد هذه التخوفات ، حيث استغلت حركة حماس الانتخابات للانقلاب على السلطة الوطنية و المشروع الوطني .
بالرغم من ذلك ارتضى الشعب العملية الانتخابية ونتائجها ما دامت غالبية القوى السياسية ارتضت الاحتكام للقانون الاساسي ولقانون الانتخابات ، ولمبدأ الانتخابات باعتبارها آلية لممارسة السلطة في إطار سلطة الحكم الذاتي واستحقاقات اتفاقية أوسلو لإدارة أمور الحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة باعتبارها وحدة جغرافية واحدة ، ولمدة محددة ، دون أن تمس أو تؤثر الانتخابات على مرجعية منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد لكل الشعب في الداخل والخارج ، ودون أن تتجاوز الانتخابات واقع أن الشعب الفلسطيني ما زال يعيش مرحلة التحرر الوطني ومن حقه اللجوء لكل أشكال المقاومة المشروعة لمواجهة الاحتلال ، ولكن للأسف استمرار الانتخابات بعد المرحلة الانتقالية المحددة في اتفاق أوسلو ساعد على تحويل المؤقت إلى دائم .
بالإضافة إلى ما سبق فإن الانتخابات ليست آلية أو ممارسة قائمة بذاتها ومنفصلة عن السياسة العامة أو الاستراتيجية الوطنية الشمولية ، كما لا يمكن عزلها عن المتغيرات التي تطرأ على مجمل مؤسسات النظام السياسي والثقافة السائدة في المجتمع ، أيضا لا يمكن التعامل مع الانتخابات المحلية بمعزل عن بقية مسلسل الانتخابات وعن المتغيرات الجيوسياسية التي تطرأ على النظام السياسي ، وخصوصا إن مست هذه المتغيرات الوحدة الجغرافية والسياسية لأراضي السلطة الفلسطينية .
مع استمرار غياب استراتيجية وطنية متكاملة وبرنامج وطني يحيط بكل قضايانا ، تأتي مسألة الانتخابات المحلية لتظهر خطورة ممارسة حق قانوني بطريقة ارتجالية ودون الأخذ بعين الاعتبار واقع الحالة السياسية الفلسطينية الراهنة في ظل الانقسام واختلافها عن الحالة التي تم فيها وضع القانون الأساسي وقانون الانتخابات ، أيضا تجاهل أن الانتخابات المحلية حلقة من مسلسل الانتخابات ولا يمكن التعامل معها بمعزل عن بقية المنظومة الانتخابية .
مع تفهمنا أن مجلس الوزراء بإعلانه عن إجراء الانتخابات المحلية في موعدها كان يلتزم بالمادة الثانية من القرار بقانون الصادر عام 2012 المعدِل لقانون الانتخابات المحلية لعام 2005 ، إلا أن طبيعة الظروف الراهنة وخصوصا تكريس الانقسام واستمرار حركة حماس في رفض المرجعيات المؤسِسة للسلطة والنظام السياسي ، وهيمنة نخبة من خارج المدرسة الوطنية مرتبطة بمصالحها الخاصة ومتعاونة مع أجندة خارجية على القرار السياسي واشتغالها منذ سنوات للانقلاب على الشرعية الفلسطينية والمشروع الوطني ، مع مؤشرات على تنسيق خفي أو على الأقل التقاء مصالح بين هذه النخبة وأطراف في حركة حماس وأطراف خارجية ، كل ذلك يتطلب التعامل مع الانتخابات المحلية كقضية سياسية سيادية تتجاوز اختصاص الحكومة .
إن ملابسات المرحلة تضفي على الانتخابات طابعا يتجاوز كونها مجرد انتخابات لمجالس خدماتية . الأمر الذي كان يتطلب دراسة الموضوع بعمق داخل منظمة التحرير وداخل حركة فتح خصوصا ، للنظر في تداعيات هذه الانتخابات على المشروع الوطني ووحدة الأرض والشعب وعلى منظمة التحرير الفلسطينية وعلى حركة فتح ضامنة استمرار المشروع الوطني . لأن الهزيمة في الانتخابات لا يعني فشل وهزيمة الحكومة بل فشل وهزيمة حركة فتح والقائلين بالمشروع الوطني .
استمرار الانقسام واستمرار حركة حماس على موقفها ، وطريقة وشروط موافقتها على المشاركة في الانتخابات المحلية ، وتجاوز لجنة الانتخابات المركزية لصلاحياتها بهذا الشأن ، والتحركات النشيطة لأطراف إقليمية مع حديث عن مبادرة سياسية جديدة ، كل ذلك يُثير الشكوك إن كانت دوافع حركة حماس بالمشاركة دوافع ديمقراطية ووطنية . بل نخشى أن أطرافا في حركة حماس تُبَيت لانقلاب جديد على السلطة وعلى المشروع الوطني من بوابة الانتخابات المحلية استكمالا لما جرى مع الانتخابات التشريعية في يناير 2006 ، انقلاب بمدخل (ديمقراطي) يكرس الانقسام ويثير الفتنة في الضفة الغربية ، و جماعات من داخل السلطة تساعدها على ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، ولو كان هناك نوايا صادقة بأن تكون الانتخابات مدخلا للمصالحة وإنهاء الانقسام لتم التوافق على قوائم مشتركة أو الالتزام بمواعيد محددة للانتخابات التشريعية والرئاسية .
بالإضافة إلى المقاربة السياسية أعلاه فإن أية مقاربة قانونية لقرار إجراء انتخابات محلية الآن ستصل لنتيجة أنه يشوبها عوار دستوري حيث تتعارض مع نص وروح القانون الأساسي الفلسطيني ومع قانون الانتخابات . ذلك أن القانون الأساسي الفلسطيني وقانون الانتخابات يتحدثان عن انتخابات في أراضي الضفة الغربية والقدس كوحدة واحدة خاضعة لسلطة وحكومة واحدة ، وتشرف عليها الأجهزة القضائية والأمنية التابعة لحكومة السلطة الوطنية ، إلا أن الواقع الآن يقول بوجود حكومتين وسلطتين في الضفة وغزة ، مما يُبطل من صلاحية قانون الانتخابات للتنفيذ .
هذا بالإضافة إلى غياب الاتفاق بين كل المشاركين بالعملية الانتخابية على المرجعيات والثوابت الوطنية وطبيعة العلاقة بين الضفة وغزة ، وهو شرط ضرورة لأية عملية انتخابية . كما أن إجراء انتخابات بلدية دون الالتزام بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في مواعيد محددة مسبقا يثير شبهة التقصد في تكريس الانقسام .
كل ذلك يجعل إجراء انتخابات محلية مغامرة غير مضمونة النتائج وطنيا وديمقراطيا حتى وإن خدمت مصالح البعض ، الأمر الذي يتطلب تدخل المحكمة الدستورية أو تدخل الرئيس شخصيا لتأجيل الانتخابات إلى حين ضمان أن تكون انتخابات وطنية وديمقراطية .