لا يخفي الجيش الإسرائيلي حقيقة أنه يستعد للحرب القادمة في لبنان، وهو يقوم بذلك على أساس من تعلّم وتطبيق الدروس المستخلصة من حرب لبنان الثانية، مع التعديلات اللازمة على ضوء التحولات في الواقع الاستراتيجي، وخاصة في الجبهة الشمالية.
إن استراتيجية الجيش الإسرائيلي، التي نشرت في العام 2015، وتمثّل البوصلة الأساسية لبناء القوة العسكرية وتفعيلها، تعتبر أن حرباً ضد لبنان هي أحد السيناريوهات المحتملة التي ينبغي الاستعداد لها.
أما الإنجاز المطلوب تحقيقه في حرب كهذه، كما تم تحديده للجيش، فهو الحسم في المستوى العملياتي في مواجهة قوات «حزب الله»، من خلال إلحاق ضرر جسيم بقدراته، والانتصار في المستوى الاستراتيجي الذي معناه تحقيق الأهداف السياسية التي تحددها القيادة السياسية، والقدرة على أن تفرض على العدو الشروط الإسرائيلية لوقف النار أو للتسوية السياسية.
وتقوم الرؤية العملياتية في الحرب على الجبهة الشمالية على عنصر الدفاع القوي الرامي إلى ضمان الأمن للجبهة الداخلية، مع هجوم بنيران كثيفة ودقيقة، وتنفيذ مناورة بريّة سريعة بتشكيلات عسكرية متعددة تتيح الوصول إلى مراكز الثقل التابعة لـ «حزب الله» وضربها.
«حزب الله».. التهديد المركزي
عرّف تقويم الوضع الاستراتيجي الذي وضعته حكومة إسرائيل «حزبَ الله» بوصفه الذراع التنفيذية للمحور الشيعي الذي تقوده إيران والتهديد العسكري المركزي المحدق بإسرائيل.
وعلى هذه الخلفية، فإن المطلوب من الجيش الإسرائيلي هو الاستعداد لمواجهة اندلاع حرب في الجبهة الشمالية.
ويظهر من تصريحات لضباط كبار في الجيش الإسرائيلي خلال العقد المنصرم أن المواجهة مع «حزب الله» مسألة وقت، ليس إلا.
وأدت الحرب في سورية إلى تضعضع وتفكك فعلي في الجيش السوري. ولهذا، فإن التهديد العسكري الأساسي الذي تواجهه إسرائيل اليوم في الحلبة الشمالية هو «حزب الله».
وهذا التنظيم، الذي يشكل عملياً القوة السياسية والعسكرية المركزية في لبنان، تزود منذ حرب لبنان الثانية بعشرات آلاف الصواريخ والقذائف التي تغطي كامل مساحة دولة إسرائيل وتمنحه قدرات مُطوَّرة. وتتأتى هذه من إمدادات إيرانية وسورية تشمل صواريخ أرض - أرض أكثر تطوراً ودقة، وطائرات حربية بلا طيار، وصواريخ مضادة للسفن ومنظومات دفاعات جوية متقدمة.
وإلى جانب ذلك، يكتسب مقاتلو «حزب الله» أيضاً خبرة ميدانية عملياتية من خلال محاربتهم في سورية إلى جانب جيش بشار الأسد ضد المتمردين و»الدولة الإسلامية».
وثمة علامات، أيضاً على تحسّن في قدرات التنظيم في مجال حرب العصابات.
وفوق هذا كله، طوّر «حزب الله» قدرات قتالية لقوات خاصة قادرة على التسلل إلى إسرائيل والسيطرة على إحدى البلدات أو على منشأة حيوية فيها.
التهديد العسكري المباشر الأساسي على إسرائيل في العام 2016 يأتي، إذاً، من «حزب الله» (بدعم إيراني)، وعلى إسرائيل أن تكون مستعدة لسيناريوهات التصعيد في الحلبة الشمالية، على الرغم من أن حزب الله غارق «حتى قمة رأسه» في الحرب في سورية.
والتدهور نحو حرب إسرائيلية مع «حزب الله» قد يحصل نتيجة سيناريوهات مختلفة مرتبطة بحالة انعدام الاستقرار التي تميز الجبهة الشمالية، سواء في لبنان أو في سورية، أما السيناريوهان الأكثر احتمالاً في هذا السياق، فهما:
- رد فعل حاد من جانب «حزب الله» على هجوم إسرائيلي ضد أسلحة متطورة يتم نقلها من سورية إلى لبنان.
وفي الواقع، إن «قواعد اللعبة» بين إسرائيل و»حزب الله» تبلورت خلال سنوات الحرب في سورية.
إسرائيل، طبقاً لها، لا تتدخل في ما يحدث في سورية، باستثناء إحباط تهديدات ملموسة وعمليات نقل وسائل قتالية متطورة إلى «حزب الله».
وضمن هذه القواعد، أي هجوم إسرائيلي على قوافل في الأراضي السورية تنقل أسلحة إلى «حزب الله» لا يعقبه رد من جانب التنظيم يشمل مهاجمة أهداف إسرائيلية. ولكن، إذا هاجمت إسرائيل أهدافاً في لبنان، فسيشعر «حزب الله» كما يبدو بأنه ملزم بالرد لكي يمنع، بين أمور أخرى، توسيع حرية حركة الجيش الإسرائيلي وتغيير «قواعد اللعبة».
- سيناريو إضافي آخر قد يتطور نتيجة قرار يتخذه «حزب الله»، بدعم إيراني يدفعه إلى محاولة إقامة بنى إرهابية ضد إسرائيل في هضبة الجولان.
وقد أعلنت إسرائيل أنها لن تغض الطرف عن تطور كهذا وأنه إذا ما حصل، فعلاً، فستكون مضطرة إلى الرد.
يعتقد الأمين العام لـ «حزب الله»، حسن نصر الله، كما يبدو، بأن إسرائيل لا تمتلك استراتيجية مبلورة لمواجهة تنظيمه، وقد بلور رؤية «حزب الله» التنفيذية والاستراتيجية استناداً إلى الأسس التالية:
- ميزان ردع مقابل إسرائيل، يقوم على القدرة على مهاجمة عمقها المدني والاستراتيجي بعشرات آلاف الصواريخ والقذائف، والطائرات الجوية الحربية بدون طيار ذات القدرة على إصابة الأهداف بدقة متناهية إلى حدّ تحقيق إصابة مباشرة لمنشآت استراتيجية.
- استنزاف إسرائيل وإنهاكها يومياً لفترة طويلة (بضعة أسابيع)، والتهديد بضرب قدرتها على الأداء الوظيفي بشكل متواصل وتشويش مجريات الحياة الطبيعية داخل إسرائيل - استراتيجياً ومدنياً.
- قدرة عالية لدى التنظيم على الصمود ووفرة في قدراته وإمكانياته، ويمكن تحقيق ذلك من خلال المحافظة على السرية التامة، وفصل القوات المحارِبة وتوزيعها، وإخفاء الوسائل القتالية في المنطقة، والاندماج في البيئة المدنية (المئات من منصات إطلاق الصواريخ موجودة في البيوت، ومجهزة بالصواريخ)، وبنى تحتية تحت الأرض.
- دعم إيران، الدولة العظمى إقليمياً، يعطي التنظيم نَفَساً طويلاً، ويوفر له عمقاً استراتيجياً وقنوات إمداد مفتوحة خارج لبنان ـ في إيران، في العراق وفي سورية.
- الارتكاز على شرعية لبنانية داخلية. يشكل «حزب الله»، منذ سنوات عديدة، لاعباً مركزياً في المنظومة الحزبية ـ السياسية والسلطوية اللبنانية، وهو يتمتع بمكانة مميزة باعتباره الطرف الوحيد القادر على حماية لبنان، بصورة جدية وناجعة، في مواجهة خطر التيار السلفي - الجهادي، وعلى رأسه «الدولة الإسلامية». ومع ذلك، فإن هذا الدعم غير مضمون في حال بادر «حزب الله» إلى التصعيد ضد إسرائيل، لما قد يكبد ذلك لبنان أضراراً جسيمة.
التوجيهات السياسية
يُلاحظ خلال السنوات الأخيرة أن القيادة السياسية في إسرائيل تختار المحافظة على الوضع الأمني الإقليمي القائم، مع إعطاء الأولوية لاستخدام وسائل تتوجه للتأثير في الوعي.
فحقيقة أن دولة إسرائيل لا تتطلع إلى توسيع مجالات نفوذها، وأنها موجودة في حالة من الارتياح النسبي، تفضي إلى سياسة تفضيل الوضع القائم بالضرورة على أية بدائل أخرى يكتنفها درجة عالية من الخطورة وعدم الوضوح.
وتتركز الأنشطة العسكرية المراد بوساطتها المحافظة على الوضع القائم في الجانب الدفاعي حيث إنها لا تسعى إلى إحداث أي تغيير جوهري في الوضع القائم. وعليه، فإن الدوافع إلى شنّ عملية عسكرية غالباً ما تتمثل في الحاجة إلى الرد على أعمال عدائية ضد إسرائيل حينما تتآكل قوة الردع الإسرائيلية، أو حينما يلتقط المستوى السياسي إشارات تدل على أن الجُمهور يُطالب بالقيام في عمل عسكري.
عندما يكون الخصم لاعباً غير دولتي، مثل «حزب الله»، لا تسري عليه القواعد والمعايير الدولية التي تسري على الدول، من الصعب ترجمة نجاح عملي إلى إنجاز سياسي، بل إن الارتباط المباشر بين كليهما في هذا النوع من المواجهات غير المتناظرة يكون أكثر التباساً. وإضافة إلى ذلك، عندما يكون الهدف الاستراتيجي هو الحفاظ على الوضع القائم، فمن شأن أي حادث يشكل خطورة على هذا الوضع - إطلاق صواريخ، اختطاف جندي، تسلل إلى بلدة إسرائيلية لتنفيذ عملية إرهابية - أن يصبح أكبر وزناً وأكثر أهمية بكثير من أهميته الاستراتيجية الحقيقية وتأثيره الفعلي.
وأبعد من ذلك، حينما نسعى إلى المحافظة على الوضع القائم، نُهمل بشكل طبيعي البحث عن الفرص السياسية، وربما نجد صعوبة في رؤيتها وتحديدها.
تجد القيادة السياسية في إسرائيل، في ظل مثل هذه المعطيات، صعوبة في أن تحدد للجيش الإسرائيلي توقعاتها منه بصورة مركـزة وواضحة فيما يتصل بنتائج الحرب المقبلة مع «حزب الله»، باستثناء فرضية العمل القاضية بأن النتائج يجب أن تكون واضحة وأقل عرضة للتلاعب من جانب نصر الله عما كانت عليه في حرب لبنان الثانية.
ومن أجل تحسين كيفية مواجهة إسرائيل للمعركة المقبلة، قبلها وخلالها، ينبغي تفحص ثلاث مسائل جوهرية في عملية اتخاذ القرارات داخل الحكومة:
- ما هو المطلوب في وقت ما لتجنب مجرد اندلاع الحرب المقبلة؟
- مسألة إمكانية اتخاذ قرار بشن «حرب وقائية». يجب عدم تجنب البحث في هذه الإمكانية، وإخراجها إلى حيّز التنفيذ يجب أن يكون مستنداً إلى تقويم مفاده أن الحرب حتمية، وبأن موازين القوى تشكل فرصة أمام إسرائيل لتوجيه ضربة قوية لحزب الله وتكبيده أضراراً جسيمة بما يغيّر موازين القوى في لبنان وسورية، خاصة وأن قوات هذا التنظيم «مشدودة» بين سورية ولبنان، وأنه يعاني من خسارات ومن إنهاك، جراء الحرب المستمرة في سورية.
- مسألة احتمال أن تنشب الحرب في مسار من التصعيد والتدهور.
ولاعتبارات الشرعية، وحالة التدهور نحو الحرب هي الأفضل لإسرائيل، إذ إنها تمكّنها من توجيه أصابع الاتهام نحو «حزب الله».
تتهرب القيادة السياسية في إسرائيل، كما يبدو، من مهمة البحث في هذه المسائل الأساسية، ويدور تفكيرها واعتباراتها حول محورين اثنين يتعلقان بالقرار: الأول، مرتبط ببُعد الوعي في مقابل البُعد المادي؛ والثاني، يرتبط بالمجال الممتد ما بين المحافظة على الوضع القائم وبين تغيير وضع إسرائيل الاستراتيجي. وهذان المحوران يُفترض أنهما يؤثران على اختيار المسار العملي (التنفيذي) المناسب للأهداف السياسية والمنسجم معها.
ومن الملحوظ أنه في الحوار ما بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية يعلو السؤال حول صورة الإنجاز العسكري المطلوبة التي يمكن تحويلها إلى إنجاز سياسي.
فاعلية القوة العسكرية تتركز، بشكل أساسي، في المستوى المادي، ولم تقم المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بعد بملاءمة استخدام القوة العسكرية كجزء من تشكيلة الجهود المتنوعة لاستخدام متعدد المجالات.
وهذا، أساساً، لأن القيادة السياسية العليا «يوجّه تفكيرها الصور» ولا تؤمن بالقدرة على تغيير الوضع الاستراتيجي من أساسه وجذوره.
خطة عملية بتوجيهات سياسية ضبابية
استخلص المستوى السياسي في إسرائيل من استنتاجات لجان التحقيق المختلفة، وبضمنها لجنة فينوغراد أنه من الأفضل له بلورة سياسات وتوجيهات ضبابية تجعل من الصعب إخضاعها للفحص والتقويم والحكم عليها في نهاية الحرب، وتتيح التهرب من السؤال عما إذا كانت الحرب قد حققت الأهداف السياسية - الأمنية التي حددتها الحكومة.
على خلفية التوجيهات السياسية الضبابية، يستعد الجيش الإسرائيلي للسيناريوهات نفسها التي يعرفها من الماضي - في هذه الحالة، سيناريوهات حرب لبنان الثانية – مع محاولة لإصلاح «جوانب الخلل» التي ظهرت في الحرب السابقة.
إذا لم يكن الجيش الإسرائيلي مأموراً بإحداث تغيير استراتيجي، بل بالمحافظة على الهدوء، وبتعزيز الردع، وبإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل المعركة العسكرية الأخيرة، فستكون خيارات العمل التي يمكنه أن يخطط لها ويعرضها محدودة.
وهنا تؤثر عوامل أخرى أيضاً، مثل طابع المواجهات، وضعف الدولة اللبنانية (الذي يزيد الخشية من عدم الاستقرار والفوضى في سيناريوهات متطرفة)، والخوف من «تورّط طويل الأمد» في منطقة معادية ومأهولة دون القدرة على «نقل العصا» إلى جهة مسؤولة.
هذه المصاعب تقلّل كثيراً جداً من الفائدة العملياتية المحتملة المترتبة عن إخضاع العدو وإلحاق الهزيمة به، أو عن احتلال مناطق ينشط فيها.
على المستوى العملياتي، المواجهات مع لاعبين غير دولتيين، وخاصة «حزب الله» بشكل أساسي، توجب النظر في خيارين: الخيار الأول هو تفكيك منظومة الخصم، من خلال الدمج بين جهود عسكرية، وجهود اقتصادية، وتوعوية، وقانونية، واجتماعية وغير ذلك؛ والخيار الثاني هو إنهاء سريع للقتال وتعزيز الردع، مع التركيز على القدرة على إلحاق أضرار جسيمة بالخصم منذ اللحظات الأولى من الحرب، ومع المعرفة الواضحة بتوقيت إنهاء العملية قبل أن يتأقلم العدو مع الوضع الجديد الناشئ، بموازاة الحرص على الإبقاء على مخرج كريم له.
إذا ما اختار الجيش الإسرائيلي توجه تفكيك منظومة «حزب الله» فعليه أن ينظر في الأسئلة التالية:
- هل هو قادر على تقليص قدرات الإطلاق لدى «حزب الله» ومؤيديه من لبنان، بل من سورية أيضاً، إلى حد كبير؟ ينبغي أن نتذكر أن الجيش الإسرائيلي يتمتع بقدرات هجومية دقيقة وهائلة، تستند إلى معلومات استخبارية نوعية، علاوة على قدرات كبيرة لاعتراض الصواريخ والقذائف («القبة الحديدية» و»العصا السحرية»)، لكن هذه لا تكفي لتحييد قدرة «حزب الله» على إيذاء الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
- استمراراً للسؤال الأول، هل ثمة حاجة إلى مناورة برية في الأراضي اللبنانية من أجل إبعاد مواقع «حزب الله» عن حدود إسرائيل وتنظيف المنطقة من منصات الإطلاق ومن التهديد الذي تمثله؟
- ما هي سياسة المسّ بالمناطق المدينية والقروية التي يخبّئ فيها «حزب الله» البنى التحتية للإطلاق، أخذاً بالاعتبار القيود التي يفرضها الحرص على تقليل الأضرار العرضية؟
- هل لدى الجيش الإسرائيلي «بنك أهداف» يضمن المسّ الجدي والناجع بمنظومات القيادة والتحكم والإمدادات التابعة لـ «حزب الله»؟
- احتمال إلحاق الأذى بقوات يونيفيل في جنوب لبنان والانعكاسات المحتملة لضغط دولي لإيقاف القتال قبل إنجاز الأهداف الأساسية.
- هل ينبغي إلقاء المسؤولية على الدولة اللبنانية عما يحدث في نطاق حدودها، بالنظر إلى مركزية «حزب الله» في الحياة السياسية - الحزبية اللبنانية، وإلى كونه فعلياً (defact) جيش الدولة؟ هل يتعين على الجيش الإسرائيلي إلحاق أضرار فادحة بالبنى التحتية الدولتية والمدنية في لبنان رداً على ضرب حزب الله الجبهة الداخلية الإسرائيلية؟ أو بدلاً من ذلك، هل مهاجمة البنى التحتية اللبنانية بالأساس في سياق الرد والردع والتحذير من مغبة مهاجمة بنى تحتية في إسرائيل؟