من بين المئات من العناوين التي قرأتها، التي تدور ولو قليلاً حول الموضوع المطروح، استوقفني عنوانان: الأول، عنوان مجموعة قصصية للراحل الشهيد المبدع غسان كنفاني: «عالم ليس لنا»، الثاني، «لن يفهمني أحد غير الزيتون» وهو عنوان قصيدة للشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة.
العنوانان ينطقان بنوع مما يجري حول الموضوع المقصود. مما لا شك فيه، أن الوعي هو انعكاس للواقع. الأخير يتشكل من المعرفة وبما يدور في المجتمع من ظواهر اقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها. كل هذه الظواهر / المجالات، لها نظرياتها المبنية على تعريفات تحاول أن تكون محددة، فالاختلاف حولها كبير وواسع، لكن هناك سمات مشتركة لكل واحدة منها، وقاسماً مشتركاً أعظم فيما بينها. هذه الظواهر ليست منفصلة بعضها عن بعض، فهي مرتبطة بشكل جدلي، تؤثر كل منها في الأخرى وتستقبل تأثيرها، لذا فلا فصل بينها. بالتالي، فإن المواقف السياسية تتراكم تدريجياً عبر عملية طويلة على طريق تعزيز الصائب منها، وبالتحديد في الموقف من العدو الصهيوني. المواقف هي إذن بالضرورة حصيلة معرفية قادرة على الانغراس عميقاً في ذوات من يحملها أو العكس.
في حاضرنا.. مجال كبير للاعتماد على ظاهرة الوهم، الذي يرسم حالة غير طبيعية لتفاصيل الواقع، ومن ضمنه السياسي. إن معيار النجاح في الخطوة السياسية أو الفشل فيها، مرهون بواقعية النظرة إلى الحدث السياسي، بكل حقائقه ومعطياته، وبالضرورة إمكاناته المتاحة غير المرئية، التي بالجهد الدؤوب يمكن إظهارها وتحقيقها، وما قد تفرزه من خطوات تالية. نقول ذلك أولاً: في محاولة لإدراك حالة النكوص السياسي العربي الحالي عموماً، والإغراق في القطرية البغيضة، في عصر التجمعات الجيو سياسية القائمة أو التي ستتشكل، انطلاقاً من رغبة قوة التأثير السياسي لتجمع دول، مقارنة مع التأثير الهزيل لقوة تأثير الدول فرادى. مثل آخر على ذلك، إن العدو الصهيوني أصبح في طور الإعداد لمشروع قانون سيقدمه إلى «الكنيست» في دورته الحالية، وينص على ضم الضفة الغربية إلى الكيان باعتبارها أرضاً «إسرائيلية». الخبر نشرته صحيفة «معاريف» منذ فترة، عن قائد المستوطنين في الضفة الغربية شيلا إلدار «ليكود»، الذي كشف فيه النقاب عن أن الكنيست سيمرر قريباً مشروع قرار الضم. وليس من المستبعد أن يكسب المشروع أصوات «حزب العمل المعارض» بزعامة هيرتزوغ، الذي لوحظ عليه مؤخراً من تصريحاته، اقترابه الحميم من نهج الليكود.
هذا ونوّهت الصحيفة إلى أن ما ورد على لسان إلدار لقي تأييد العديد من زعماء الأحزاب «الإسرائيلية» الأخرى، التي كان يُشك في تصويتها لصالح نجاح المشروع حتى الأمس القريب. الخطوة لم يكن إلدار ليطرحها، لولا الضوء الأخضر من زعيم الحزب نتنياهو، الذي وإمعاناً في التحدي، يصر على المضي قدماً في الاستيطان وبخاصة في تهويد القدس، وزرع منطقتها بوحدات استيطانية جديدة، كما في باقي مناطق الضفة الغربية. في ظل هذا الوضوح الصهيوني، ما زال بعضهم يراهن على إمكانية قبول الكيان بإقامة دولة فلسطينية في أراضي عام 1967 من خلال المفاوضات معه، مع العلم أن نتنياهو رفض حتى المبادرة الفرنسية الجديدة رغم تقزيمها للحقوق الوطنية الفلسطينية. هذا إلى جانب تصريحات عديدة لمسؤولين «إسرائيليين»، أكدوا فيها أن لا دولة فلسطينية ستقام بين النهر والبحر غير دولة «إسرائيل».
نعم نحن نعيش عصراً تراجعت فيه القضية الفلسطينية عقوداً إلى الوراء. التراجع وصل حتى إلى قلة الاهتمام بالخبر الفلسطيني. ليس غريباً أن نقول إن «الوهم السياسي» أصبح مدرسة، بل مدارس! وعناوين لروايات عالمية منها «حفلة التفاهة» للمبدع ميلان كونديرا. وتحول إلى كتب ثقافية، آخرها كتاب «نظام التفاهة» لأستاذ الفلسفة والعلوم السياسية الكندي ألان دونو.
يتطرق الكتاب (باختصار شديد) إلى السيطرة الحالية للتافهين على العالم، بعد أن حسموا المعركة دون ثورات، وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه، اجترحوا حلول القابلية للتعليب محل التفكير العميق لبني البشر. يوصي دونو الإنسان الراغب في أن يكون واحداً منهم، ب: لا تكن فخوراً ولا روحانياً، فهذا يظهرك متكبراً. لا تقدم أي فكرة جيدة. فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسّع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة - أي مرونة قابلة للتشكل - وكن كذلك. عليك أن تكون قابلاً للتعليب!. نعم، لقد تغير الزمن.. فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة في دول كثيرة من العالم.
نعم، لن يصح سوى الصحيح. أن الكيان الصهيوني زائل لا محالة.
عن الخليج
الوهم والحقيقة في الواقع الفلسطيني
23 سبتمبر 2023