لست أضيف جديدًا، إنما هو تذكير. درج البشر، باختلاف ثقافاتهم وتباين أعراقهم، على الأخذ بعين الاعتبار هيبة الموت، واحترام شخص الميت بتجنّب التجريح، والابتعاد عن تعداد مآخذ السلوك ومثالب المواقف، حتى لو أن بينها ما هو صحيح، إذ المهم إذا حضر الموت هو تذكّر الحقيقة الأولى في الحياة، والأهم: «كل من عليها فان»، وفي الحديث الشريف توجيه واضح تمام الوضوح: «اذكروا محاسن موتاكم»، لذا، فإن المستحب للمرء في مثل هذا الحدث التزام التقريظ. خطر لي ما سبق بعد مطالعة نصوص تناولت رحيل عالِم الكيمياء الدكتور أحمد زويل، بما يقترب من الطعن في عِلم الرجل، وأحقيته في جائزة نوبل.
لست أدري لماذا، وإلى متى، يتواصل هذا الإصرار العربي على النظر لكل مخالف في التفكير أو الموقف من منظور التشكيك والتخوين. لستُ أعترض على موقف أي معارض لأي شكل من أشكال العلاقة بين أية دولة عربية وبين إسرائيل. ذلك حق لهم. وليس يحق لغيرهم أن يرميهم بما يقلل من شأن أحاسيسهم الوطنية. في المقابل، ما الضرر أن يقبل أقطاب معسكر «المقاومة والممانعة» الآن، ورثة «جبهة الصمود والتصدي» زمن ثمانينات القرن العشرين، أن يرتأي غيرُهم غيرَ رأيهم؟ الجواب البسيط، أو المُفترض، هو ألا ضرر في ذلك ولا ضرار. أعرف ذلك لأنني، ببساط، كنتُ مثلهم، ولطالما كنت أستشيط غضبًا إذا قيل إن فلسطين لن تعود بكامل ترابها من النهر إلى البحر. لكن الواقع غير فهمي لما يجري، ولم يتغير حبّ فلسطين في القلب من الناقورة إلى رفح مقدار ذرة، بل تأكدت لدي ضرورة تفهّم أن السلام هو أقصر الطرق وأفضلها لمستقبل الفلسطينيين والإسرائيليين معًا.
السؤال هنا هو: من الذي يرفض السلام حقًا؟ يعرف نُخب ساسة ومفكري العرب، من كل الأطياف، أن متطرفي إسرائيل هم المصرون ليس فحسب على استمرار الاحتلال، بل على تطهير «أرض الميعاد»، حسب مقاييس العِرق، هؤلاء هم الرافضون للتعايش مع «الأغيار»، مسلمين ومسيحيين و... يهودًا. نعم، والمرجع هنا يهود «ناطوري كارتا». رهط التطرف الإسرائيلي هذا يلتقي تمامًا مع مثيله في الوسط العربي. كأنه تحالف الأضداد. ذلك كله معروف في أوساط النخب العربية. إنما لست أعرف كم بين مواطني العالم العربي يعرفون ذلك، أو ما إذا كانت تلك «الأغلبية الصامتة» ما بين المحيط والخليج تريد أن تعرف أن منهج أفيغادور ليبرمان ليس يقل تطرفًا عن مناهج فلان وعلان بين أحزاب وحركات الرفض العربي. أليس ثمَّ ما يدعو للتأمل في معنى أن يهيج سخط ليبرمان والغلاة أمثاله لمجرد بث قصيدة للراحل الكبير محمود درويش، هل ثمة شبه بين رعب ليبرمان ذاك من أبيات «سجل أنا عربي»، وبين غضب بعض مثقفي العرب لمجرد قبول قامة عربية بحجم الروائي العالمي أمين معلوف التحدث للجمهور عبر قناة تلفزيونية إسرائيلية؟ لن أغادر هذه الفقرة قبل إشارة ذات مغزى. أمين، لغير العارفين، هو نجل رشدي المعلوف، أحد أهمّ رواد صحافة لبنان في عز ازدهارها. يخبرني الصديق ريمون عطا الله، المشهود له في الوسط الصحافي اللبناني والعربي بالكفاءة المهنّية ورُقي الخلق عن جملة كان رشدي المعلوف يرددها: «انظر إلى من قال، لا إلى ما قيل». صحيح، كثيرون قد يجيدون الشعر والنثر، المديح والهجاء، إنما قليلون يبقى لما قالوا تأثير طوال قرون. ليس الخطأ في نقد موقف أحمد زويل السياسي، ومن قبله نجيب محفوظ، وبينهما إميل حبيبي (وقد عانى الأمرين عندما رُشح لجائزة إسرائيل الأدبية، ولم يقبلها إلى أن سمع بأذنه الرئيس ياسر عرفات نفسه يسمح له بتسلمها)، إنما الخطأ غياب احترام الموت، ونسيان حقيقة أن الأرض كما تتسع لكل اعتقاد، فإن ثراها هو مستودع كل الأجساد.
في السياق ذاته، استحضر مشهد شبان غزة المؤثر، إذ يتحدون قهر إسرائيل بالغناء عند معبر إيريز. وقع ذلك نهار السبت الماضي، عندما منع الإسرائيليون أعضاء فرقة دواوين الغزاوية من اجتياز المعبر إلى القدس للمشاركة في مهرجان فلسطين الدولي. المعنى المراد للتأثير هنا هو وقع التصرف الحضاري لشبان فرقة دواوين على المشاهدين عبر قارات العالم أجمع. جميل أن تغني روان عكاشة للشاب الأسمر، ثم تنشد للثورة مع رؤوف البلبيسي «هبت النار»، مثلما هو رائع أن يجمع محمد عساف بين عشق الوطن والتعلق بالحبيبة. المشكل أن ذلك الإبداع يثير حنق أقلية تفرض سيطرتها، وتستطيع أن تقمع غيرها. إلى متى؟ لست أدري.
عن الشرق الاوسط