على الرغم من أنّ الانتخابات المحلية هي استحقاق ديمقراطي أصيل، وعلى الرغم من أنها يُمكن أن تشكّل فعلاً عملياً وليس قولاً نظرياً مدخلاً قد يكون هو الأنسب لإنهاء الانقسام بعد معاناة طويلة للوصول إلى إنهاء هذا الانقسام، وعلى الرغم من أن الأكثرية الشعبية تؤيّد هذه الانتخابات وتُعوّل عليها وتُراهن على نجاحها من أجل تحفيز استكمال بقية الاستحقاقات الديمقراطية الأكبر على صعيد التشريعية والرئاسية... إلاّ أن «فتح» بالذات لا تبدو أنها في أحسن حالاتها لخوض غمار هذه التجربة والاستحقاق، كما أنها (أي فتح) لا تبدو جاهزةً لها تماماً.
أغلبية «فتح» على ما يبدو أصبحت مع المضيّ قُدماً في هذه الانتخابات حتى وإن كان جزء من هذه الأغلبية بات يؤيد إجراءها بسبب عدم «القدرة» على التراجع عنها. أقصد أن هذا الجزء يرى في «التأجيل» أو «المماطلة» ما هو أكبر وأخطر من خسارات هنا وخسارات هناك في مختلف التجمعات بما في ذلك مدينتان أو أكثر من المدن الكبيرة.
أما ذلك الجزء الأكبر من هذه الغالبية فإنه يرى بأن خوض هذه المعركة سيعني تكريس الديمقراطية وهو مكسب وطني كبير للحركة والمجتمع، كما أن هذه المعركة بغض النظر عن نتائجها ستكشف للحركة مواطن القوة والضعف في بنيتها وأدائها وفي قدراتها الحقيقية على حشد التأييد.
هذا الجزء بالذات ـ وهو أغلبيّ على كل حال ـ لا يعير اهتماماً كبيراً لكل الانتقادات التي توجّه للحركة من قصور ومن تشرذم، وهو يرى (أي هذا الجزء الأغلبيّ) أن هذه الانتقادات توجه للحركة منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا بما يشبه الأزمة السياسية.
كما أن الذين يُمعنون في هذه الانتقادات لا يعملون في الواقع على تفاديها بقدر ما ينتظرون كل المناسبات للحديث عنها ليس إلاّ.
روى لي الأخ والصديق د. سامي مسلّم أنه عندما حضر في العام 1967 أوّل اجتماع للحركة في حياته كان موضوع النقاش في ذلك الاجتماع هو تجاوزات ياسر عرفات...!!! ويرى الدكتور مسلّم أن هذه الانتقادات مستمرة في كل الظروف وفي كل العهود، ومستمرة عندما كانت «فتح» تكتسح الانتخابات وعندما كانت تخسرها، وهو الامر الذي يعني بأن هذه الانتقادات بما تنطوي عليه من نواقص في البنية التنظيمية والعملياتية والكفاحية للحركة ليست هي العنصر الحاسم في نجاح الحركة أو تراجع الحركة في الانتخابات. وجهة نظر الدكتور مسلّم مهمة لأنه عايش مرحلة المدّ والصعود الأسطوري تماماً، كما عايش مرحلة التراجعات الكبيرة.
إذا خاضت حركة «فتح» هذه الانتخابات على اعتبار أنها (أي الانتخابات) هي في الجوهر انتخابات للخدمة المجتمعية تحت المظلة الوطنية وليس تحت هيمنة الاعتبارات الحركية الخاصة، وإذا ما خاضت حركة «فتح» هذه الانتخابات بالقناعة التامة ان مرحلة الهيمنة قد انتهت وإلى غير رجعة وان فلسطين دخلت في مرحلة جديدة من تطورها الاجتماعي والسياسي، وان الشراكة الوطنية هي العنصر الحاسم في النجاح والإنجاح، وعلى قاعدة إعطاء كل نوع من الانتخابات صفتها وجوهر دورها فإن حركة «فتح» ستنجح في تثبيت الانتصارات التالية:
أولاً: انتصار الديمقراطية بدلاً من بقاء حالة الترهل والمراوحة وانتظار المجهول، وإعادة الاعتبار للصوت الشعبي، وإعادة الاعتبار لحيوية التجديد على قدر ما من المحاسبية والرقابة المجتمعية، وفي كل ذلك نجاح باهر في مواجهة عقلية الهيمنة والتحكم وتأبيد القيادات في مختلف المؤسسات.
في ظل عقلية التسلط والهيمنة فإن انتصار صندوق الانتخابات على صناديق التمويل السياسي، وعلى صناديق شراء الذمم، وصناديق أخرى كثيرة هو بحدّ ذاته انتصار كبير على كل هذه العقليات والذهنيات التي عملت وما زالت تعمل على إعاقة التطور الاجتماعي والسياسي في بلادنا.
ثانياً: انتصار القيم والهمم بدلاً من تسيّد علاقات بيع الضمائر وشراء الذمم. فعندما تجرى الانتخابات الدورية وتتجدد القيادات في حالة صحية من التنافس على الخدمة الاجتماعية، فإن مسار تطور المجتمع سيسير نحو انتصار القيم وهزيمة الذمم المشتراة والضمائر المباعة حتى وإن بدت العملية في البدايات صعبة ومجرد أقوال نظرية ومثاليات أخلاقية، ذلك أن مثل هذه المسائل حدثت في كل التجارب التي سبقت هذه المرحلة، وفي تجارب غيرنا، وهي ستحدث دائماً دون أن تمنع انتصار القيم على غيرها.
ثالثاً: انتصار المظلة الوطنية والقوائم الوطنية التي لا تنحرف عن الدور الجوهري في تقديم الخدمة الاجتماعية هو السبيل الوحيد بل الأوحد لسد الطريق على كل المحاولات التي تسعى لاختراق الجدار الوطني والعمل على إحداث ثغرات يمكن أن تعبر من خلالها السياسات والمخططات الإسرائيلية.
ليس مستغرباً وليس غريباً أن تحاول إسرائيل التسلل إلى كل موقع وكل زاوية، بل من المتوقع أن تحاول إسرائيل الترويج لسياسة استبدال الحقوق الوطنية بالاحتياجات المجتمعية بهدف تصفية هذه الحقوق تحت لافتات وشعارات ودعايات مختلفة. لكن الأمر الذي يستغرب فعلاً أن يتم التعامل مع هذه المحاولات وكأنها «مفاجأة» من العيار الثقيل، أو بالمقابل الاستهانة بها بالمراهنة على وعي المجتمع فطرياً لهذه الأخطار.
وعندما ينتصر المجتمع على هذه الصعد الثلاثة فإن «فتح» ستكون هي المنتصر الأول بغض النظر عن عدد المقاعد الحركية التي ستحصل عليها.
ولو كان الأمر يتعلق بواحد مراقب مثلي لنصحت «فتح» وكذلك باقي أطراف الحركة الوطنية بالوحدة والقوائم المشتركة، ولنصحتهم قبل ذلك وبعده باختيار شخصيات وطنية مؤهلة بعيداً عن الاعتبارات الحزبية المباشرة، ولتركت لقطاع الشباب والمرأة والنخب الاجتماعية حرية قيادة هذه الانتخابات والعمل على استثمارها بأعلى الطاقات الممكنة.
وبمناسبة الحديث عن الاختراقات الإسرائيلية فإن الاعتبارات العائلية والحمائلية والجهوية التي تتجاوز الاعتبار الوطني والديمقراطي واعتبار القدرة والتأهيل والالتزام هو المدخل الوحيد لمثل هذه الاختراقات المزعومة.