لا نبالغ لو قلنا إن قمة بطرسبرغ التي عقدت يوم الثلاثاء الماضي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، تاريخية ومهمة للغاية، ليس لأنها وضعت حداً للقطيعة التي حدثت بين الدولتين بعد إسقاط تركيا للمروحية الروسية في تشرين الثاني من العام الماضي وحسب، ولكن لأنها أعادت التبادل التجاري، وفتحت الباب مجدداً للعلاقات الاقتصادية بين البلدين، ونظراً أيضا إلى أن علاقة طيبة بين أنقرة وموسكو، ستنعكس على طبيعة التحالفات والصراعات الإقليمية، وحتى على السياسات الخارجية، وعلاقة الدولتين بالغرب.
فروسيا التي بدأت منذ سنوات بشق عصا الطاعة عن واشنطن، وتابعت قدما سياسة خارجية مستقلة وقوية، بل وحتى مناوئة للولايات المتحدة وللغرب، خاصة في الموقف من الحرب في سورية، تكون قد أخرجت لسانها طويلا للغرب، بمعنى أنها باحتواء ما حدث بحنكة سياسية - حيث كان يمكن لبوتين أن يتسرع، ويرد على إسقاط تركيا قبل نحو العام للطائرة الروسية بما هو أبعد من القطيعة الاقتصادية، وأن ينجر لحرب مع الجارة القوية، بما يعيد للأذهان حرب القرم قبل نحو قرنين من الزمان - قد حققت إنجازا سياسيا حفظته لها تركيا، وحفظ خط الرجعة للبلدين، إلى أن وجدت روسيا فرصتها، في محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت بتركيا الشهر الماضي، والتي على أثرها توترت علاقات تركيا مع واشنطن والغرب، حيث ما زال أردوغان يطالب الولايات المتحدة بتسليمه فتح الله غولن، أو ترحيله، ويأخذ على واشنطن والغرب موقفهما المتردد أو الرخو تجاه الانقلاب، والتي بالمقابل تنتقد تركيا على إجراءاتها التي تلت محاولة الانقلاب.
على العكس من ذلك فان تركيا تحتفظ لموسكو بأنها قامت بإبلاغها بمخطط الانقلاب قبل وقوعه بساعات، ما منع الحكومة من السقوط، وهكذا فان موسكو بإعادة علاقاتها مع أنقرة تقوي من موقفها الإقليمي والدولي، وتعزز فرصتها في أن تتصاعد كندٍ للغرب، فيما تركيا من جهتها، تكون قد أثبتت بأن أردوغان هو غير المؤسسة العسكرية، وأنه بقيادته لبلاده بهذا الشكل قد أخرجها من الجيب الخلفي للغرب، ويكون قد جعل منها قوة إقليمية ودولة مركزية في الشرق الأوسط، لا تخضع لاملاءات الغرب، بل تشق طريقها بشكل منفصل ومستقل.
وحيث إن هناك مواقف سياسية متباينة لكل من روسيا وتركيا، خاصة تجاه الملف السوري، فان القمة بينهما في بطرسبرغ قد تجنبت - على الأقل علنا - الخوض في هذا الملف، ورغم أنهما فيما يبدو قد ناقشاه في جلسة مغلقة، إلا أن هذا الملف ربما يحتاج منهما إلى متابعة لاحقة، المهم أنهما قد أعلنتا عن أن المحادثات قد ركزت على الجانب الاقتصادي، وهذا أمر مهم جدا لهما، فحسب نيويورك تايمز كانت العلاقات بين البلدين تعود عليهما سنويا بنحو 30 مليار دولار، وكان الزعيمان قد تعهدا بوصولها إلى مئة مليار العام 2020
أما وزير التجارة التركي فقد أشار أول من أمس إلى أن بلاده خسرت نحو المليار دولار خلال الأشهر السبعة الماضية من صادراتها بسبب الأزمة مع روسيا، ومعروف بأن السياحة الروسية إلى تركيا تحتل المرتبة الثانية بعد الألمانية، فيما تحصل تركيا على نصف احتياجاتها من الطاقة من الغاز الروسي، كذلك فان البلدين لهما مصلحة في مساهمة شركات البناء التركية في تشييد المباني الخاصة بملاعب كرة القدم حين تستضيف روسيا مونديال العام 2018.
لا شك بأن الدولتين، تمثلان قطبين مركزيين في الشرق، بقوتهما الاقتصادية ومكانتهما بين مئات ملايين البشر، حيث تمثل تركيا أحد زعامات العالم الإسلامي، السني خاصة، فيما تمثل روسيا، بعد أن غادرت الشيوعية، الكنيسة المسيحية الشرقية، وهكذا فإنهما بإجراء المصالحة بينهما تقويان من موقعيهما تجاه الخارج وعلى المستويين الاقتصادي والسياسي.
أما فيما يخص الملف السوري، ورغم أنه من الصعب عليهما الخروج باتفاق بشأنه، إلا أن علاقة طيبة بين موسكو وأنقرة، ستعني تقدما في الموقف تجاه هذا الملف أيضا، حيث إنهما - حتى الآن - على طرفي المعادلة المتناقضة فيه، لكن التقارب بينهما سيضعف من تأثير الغرب وأميركا على هذا الملف، وربما يعزز فرصة الوصول للحل عبر القوى الإقليمية، أي يمكن لروسيا وتركيا أن تجتمعا مع إيران والسعودية، من دون الغرب والتوصل لحل.
ورغم أن لكل من الدولتين موقفا متعارضا تماما مع الآخر، خاصة فيما يخص الشمال السوري، فسيطرة النظام على الشمال، تعني الدفع بأكراد تركيا لمحاولة تعميم النموذج الكردي المتحقق في العراق، والسائر على طريق التحقق في سورية، وتنفيذه في تركيا، فيما سيطرة الجماعات الإسلامية، بما في ذلك المعارضة المسلحة، على الشمال السوري، يزعج روسيا التي ترى بذلك اقترابا للإسلام المتطرف من أراضيها.
بقي أن نشير إلى أن البراغماتية السياسية، التي تتمتع بها السياسة الخارجية لكلا الدولتين كذلك اعتدالهما الديني والسياسي النسبي، يجعل من مدخل الاقتصاد ممرا مريحا للتوصل إلى حلول ممكنة لملفات السياسة، ومن يدري ربما تفتح قمة بطرسبرغ الباب، للتقدم على طريق الحل السياسي في سورية، والأهم، في إبعاد أصابع التدخل من وراء البحار والمحيطات، الذي تمارسه - خاصة واشنطن - في الشرق الأوسط، أي في الملعب الخلفي لروسيا وتركيا، أو في الشرق الذي طالما لعبت الدولتان تباعا أو معا، عبر التاريخ، وعبر العصور الإمبراطورية دورا رياديا فيه، وقد جاءت اللحظة، لإغلاق شقة الخلاف بينهما، التي سمحت للغير بالدخول والتدخل، دون وجه حق!