1948 - 2016: عن قذارة السلاح الإسرائيلي

20160401164859
حجم الخط

تبدو الرواية الإسرائيلية حول استشهاد الشاب الفلسطيني عبد الفتاح الشريف، متناقضة مع الواقع الذي أحاط، وما زال يحيط، بهذه القضية، بدءا من الجريمة الأولى، بإطلاق جنود الاحتلال النار على الشريف وزميله رمزي القصراوي، الذي استشهد على الفور، ومرورا بإعدام الشريف وانتهاء بأسطورة 'طهارة السلاح' و'أخلاق' جيش الاحتلال (كيف يمكن أن تجتمع الأخلاق مع الاحتلال بمكان واحد؟).

وتعكس قضية إعدام الشريف تاريخ إسرائيل الإجرامي، منذ النكبة وحتى اليوم. وحتى أن قسم من الإسرائيليين بدأ يتحدث في هذا الاتجاه. أحد المحللين احتج على كذبة 'طهارة السلاح' ونشر تقريرا بعنوان 'السلاح أصبح قذرا منذ 1948'. وهذا هو التوجه لدى معظم المحللين في وسائل الإعلام الإسرائيلية المركزية، رغم أن أغلبية الإسرائيليين، بحسب استطلاعات الرأي، تؤيد الجندي القاتل وتبرر جريمته. ولموقف الإسرائيليين هذا سبب أساسي، وهو أن قادتهم وإعلامهم حقنوهم ولقنوهم وأطعموهم على مدار سنوات طويلة وجبات دسمة من التحريض العنصري والاستعلائي ضد الفلسطيني خصوصا والعربي عموما، إلى جانب التاريخ الإجرامي الإسرائيلي والتسامح مع المجرمين.

وقبل الخوض في هذا التاريخ، يلفت الانتباه التقرير الأسبوعي للصحافي غدعون ليفي، في صحيفة 'هآرتس' اليوم الجمعة. ليفي زار عائلة الشهيد الشريف. وقال له يسري الشريف، والد الشهيد، إنه ليس مقتنعا بأن نجله البكر (21 عاما) نفذ عملية طعن. وأضاف أنه 'لا أصدق أنه كان يحمل سكينا. لقد حصل على عمل جديد وكان سعيدا. كانت لديه منجرة ورأى بها مستقبله'. وقال إن عبد الفتاح كان متوجها، صبيحة استشهاده، إلى بلدة العيزرية في القدس الشرقية، من أجل إجراء قياسات لغرفة نوم. فقد كان متخصصا في هذا العمل. ورافقه زميله القصراوي.

العفو بانتظار الجنود الإسرائيليين القتلة دائما

تاريخ الجرائم العسكرية والأمنية الإسرائيلية طويل ومعروف. وأكّد المحلل السياسي في صحيفة 'يديعوت أحرونوت'، ناحوم برنياع، اليوم، وإن كان بكلام مُجمّل، على أن 'حروب إسرائيل شهدت حالات غير قليلة من المخالفات لمعايير القتال، وبضمن ذلك أعمالا مشابهة للعمل الذي اقترفه الجندي (القاتل) في الخليل. وحدثت خلال الحروب وبين الحروب. كانت هناك استنكارات، وكانت هناك قصائد عتاب كالتي نظمها نتان ألترمان، وكانت إدانات هنا وهناك، ولم تكن هناك عقوبات. ليس عقوبات حقيقية'.

وأشار برنياع في هذا السياق إلى محاكمة أفراد وحدة حرس الحدود الذين اقترفوا مجزرة كفر قاسم، في تشرين الأول عام 1956. 'قلائل يذكرون ما حدث بعد ذلك: الجنود أرسلوا إلى السجن وتم إطلاق سراح الضباط بعد فترة قصيرة وعُيّنوا في وظائف مرموقة (أحدهم أصبح رئيس الأمن في مفاعل ديمونا النووي)'.

اللافت في هذا السياق أنه حتى عندما تمت إدانة ضباط أو جنود باقتراف جرائم وفرض عقوبات عليهم، فإنهم كانوا دائما يحظون بعفو بعد قضاء فترة عقوبة قصيرة جدا. وكتب برنياع، أنه 'عندما كان رفائيل إيتان رئيسا لأركان الجيش، أصدر عفوا على كل من يرتدي زيا عسكريا وأدين بقتل عرب، في لبنان وفي إسرائيل. لقد حظي بالعفو ضباط قتلوا بدم بارد أسرى مكبلين في لبنان. كذلك حصل على عفو جنديا أطلق النار وقتل مواطنا كان يسير في شارع بالقدس الشرقية، بدون سبب، وفقط لأنه رغب بقتله'.

وتوقع برنياع أن الجندي القاتل الذي أعدم الشريف 'لن يُتهم بالقتل المتعمد، رغم أن الحدث يُذكر بعملية إعدام. ورغم ذلك، فإن تهمة القتل المتعمد ليست خيارا... ليس في الحياة الحقيقية. وبموجب تجربة الماضي، بالإمكان الاعتقاد أن الجندي الذي أطلق النار سيدان ببند أخف بكثير، وسيقبع فترة قصيرة في السجن، وسيطلق سراحه ويذهب طي النسيان'.

كذلك أكد الصحافي كالمان ليفسكيند في صحيفة 'معاريف'، على أن 'الجيش الإسرائيلي وأذرع الأمن قتلوا خلال السنين الماضية عددا لا نهائي من الأشخاص، ولم يحدث ذلك فيما كانوا يشكلون خطرا، ولم يحاولوا جلبهم للمحاكمة'.

وأضاف أنه 'كان أفراد الوحدة 101 (التي أسسها أريئيل شارون)، بحسب المعايير الأخيرة، مجموعة قتلة تسلسليين... وأفراد الوحدات الخاصة في الجيش الإسرائيلي، من الكوماندوز البحري وحتى سرية هيئة الأركان العامة، بإمكانهم أن يسهموا هم أيضا من هنا وحتى إشعار آخر حيال أعداء غادروا العالم من دون محاكمتهم'.

واعترف ليفسكيند بأنه 'ليس لدي مشكلة في ذلك. فقد تم تحقيق أمن الدولة بفضلهم. ولكن ينبغي أن نذكر حقيقة أنهم فعلوا ذلك بموجب أوامر عسكرية' معتبرا أن هذه الأوامر 'تجعل أفعالهم قانونية ولكنها ليست أخلاقية بالضرورة'.

ورأى المحلل العسكري في 'هآرتس'، عاموس هرئيل، أنه 'مثلما كان التعاطف، في حالة مختلفة كليا، مع الجندي المخطوف غلعاد شاليط، هكذا يحظى الجندي مطلق النار من الخليل بتأييد واسع. كما أن المحادثة الهاتفية غير المألوفة والمستهجنة لرئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، مع والد الجندي أمس، تدل على أن الجندي بات نسخة جديدة لشاليط'.

تاريخ حافل بجرائم قتل واغتصاب

تحت عنوان 'السلاح أصبح قذرا منذ 1948'، استعرض المحلل الأمني في 'هآرتس'، أمير أورن، بعض الممارسات الإجرامية للجنود الإسرائيليين في العام 1948. وكتب أن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، غادي آيزنكوت، الذي يتعرّض لانتقادات اليمين المتطرّف في قضيّة الجنديّ القاتل، 'تبنّى الدعاية الرسمية، الكاذبة، التي تنسب للجندي الإسرائيلي والمؤسسة التي يعمل من خلالها دستورا أخلاقيا مختلف وأسمى من دساتير الجيوش الأخرى'.

واستعرض أورن عدد قليل جدا من الجرائم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية خلال العام 1948، ورأى أن المشكلة الكبرى تكمن في العقوبات، أو انعدام العقوبات في غالب الأحيان، ضد مرتكبي هذه الجرائم.

وإحدى هذه الجرائم ارتكبت في شهري تشرين الأول وتشرين الثاني، حيث أقدم قائد سرية في الجيش الإسرائيلي على قتل 18 أسيرا لبنانيا وفي الغداة قتل 15 أسيرا آخر. وحصل في المحكمة العسكرية على تخفيف في الحكم بادعاء أن ارتكب الجريمة 'بسبب غريزة انتقام نمت لديه في تلك الفترة'. وبعد ذلك أصدر الرئيس الإسرائيلي الأول، حاييم وايزمان، عفوا عنه.

وفي شهر أيار 1948 اتهم جنديان بقتل مواطنين عربيين، لكن تمت تبرئتهما بادّعاء أنّهما 'عملا بموجب أو غير واضحة'. ورغم إلغاء التبرئة، لكن رئيس أركان الجيش حينذاك، يعقوب دوري، منع استئناف محاكمتهما.

وفي تشرين الثاني من العام نفسه اغتصب جندي إسرائيلي امرأة عربية وحاول زميله اغتصاب امرأة عربية أخرى. وادعى الجنديان أن 'العربيتين، اللتان اعترضتا بداية، وافقتا في نهاية الأمر'. ولم يحاكما بسبب عفو شامل.

وفي أيار العام نفسه، اتهم ثلاثة جنود إسرائيليين باغتصاب طفلة عربية في ال12 من عمرها. وأدين أحد الجنود باقتراف عمل مشين وحكم عليه بالسجن لثلاثة شهور 'بسبب أخذ مكانة عائلته بالحسبان'، ثم أصدر دوري عفوا لصالحه.

لماذا كل هذه الضجة الآن؟

وفقا للمحلل العسكري في 'يديعوت أحرونوت'، أليكس فيشمان، فإن لا أحد في قيادة الجيش الإسرائيلي، من قائد الفرقة وحتى رئيس أركان الجيش، يصدق رواية الجندي القاتل. ولا تزال الحقائق كما هي منذ التحقيق الأولي الذي أعقب إعدام الشريف والتحقيق العسكري الأوسع الذي أجري في الغداة، وعلى أثره أبلغ ممثل النيابة العسكرية الجندي بأنه 'مشتبه بالقتل المتعمد'.

وبعد ارتكاب جريمة الإعدام، اعتبر نتنياهو أن سلوك الجندي 'لا يلائم أخلاقيات الجيش الإسرائيلي'، وبعد هذا 'التنديد' تراجع نتنياهو، وأوحى بأن الجندي ارتكب جريمته بسبب الظروف التي يواجهها الجنود الإسرائيليون في الضفة الغربية. ثم جاء اتصاله الهاتفي بوالد الجندي ومحاولة تبرير الجريمة، وتأكيده على أن المحققين في الشرطة العسكرية سيأخذون هذه الظروف بعين الاعتبار. وقال نتنياهو لوالد الجندي إنه أدرك معاناتكم'.

وكان نتنياهو ينافس بذلك قادة اليمين المتطرف، مثل رئيس حزب البيت اليهودي' ووزير التربية والتعليم نفتالي بينيت، الذي طالب السياسيين وخصوصا وزير الأمن، موشيه يعلون، بعدم التنديد بالجندي. كذلك ندد رئيس حزب 'يسرائيل بيتينو، أفيغدور ليبرمان، بتصريحات يعلون ونتنياهو، وحضر جلسة محكمة الجندي في قسطينا أمس، ليعلن عن تأييده للجندي. كما نُظمت تظاهرات مؤيدة للجندي القاتل، ووصفه المتظاهرون ب'البطل'.

وكان آيزنكوت قد أعلن أن جريمة الجندي افتضحت، وتلا ذلك ملصقات تصور رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بأنه شخصية شريرة ولا يدعم جنوده. ووقف يعلون خلف آيزنكوت داعما له. وانبرى المحللون في وسائل الإعلام المركزية ينددون بالجندي ويحاولون الدفاع عن آيزنكوت. ورأى معظم المحللين أن التنافس بين نتنياهو وقادة اليمين على دعم الجندي هدفه كسب تأييد الناخبين في اليمين المتطرف وبين المستوطنين.

لكن لماذا قامت هذه الضجة حول هذه القضية الآن، رغم تاريخ إسرائيل الحافل بالتستر على جرائم جنودها وقواتها؟ وإذا كان سياسيون مثل نتنياهو وبينيت وليبرمان يريدون كسب أصوات في اليمين، ألا يريد يعلون كسب أصوات ناخبين أيضا، خاصة وأن استطلاعات الرأي تظهر تأييدا واسعا للجندي؟ ولعل التنديد من جانب نواب في قائمة 'المعسكر الصهيوني' وحزب ميرتس بمواقف قادة اليمين يعكس تنافسا على أصوات معسكر الوسط – يسار.

لكن يبدو أن الأسباب الأهم في الضجة الحاصلة والسجال الدائر حول هذه القضية أعمق من ذلك. وأحد هذه الأسباب، هو أن قادة اليمين الاستيطاني يريدون تغيير تعليمات إطلاق النار، بحيث تكون مخففة أكثر، وإعلان الحرب على الفلسطينيين، لأن من شأن ذلك أن يخدم مصلحتهم في منع أية إمكانية وصد أية ضغوط من أجل محاولة استئناف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين. وأشار هرئيل وفيشمان إلى هذا الأمر في تحليلات نشراها في وقت سابق من الأسبوع الحالي.

سبب آخر للسجال الحالي، هو أن قادة الجيش الإسرائيلي، ومعهم يعلون، يتحسبون من انتقال احتجاجات اليمين المتطرف على اعتقال ومحاكمة الجندي إلى داخل صفوف الجيش، ونشوء حالة فوضى بداخله.

سبب ثالث، هو اعتبار الجيش أنه 'البقرة المقدسة' الأخيرة الباقية في إسرائيل. ويرى قادة الجيش أن اليمين المتطرف والمستوطنين ينوون ذبحها أيضا، ليس من أجل القضاء عليه وإنما من أجل زيادة نفوذهم فيه وإملاء أجندتهم بالكامل عليه، وخاصة الأجندة الدينية، التي ستدفع بالعلمانيين إلى الابتعاد عن الجيش، بينما يؤكد باحثون إسرائيليون على أن هذه التحولات، أي ابتعاد العلمانيين عن الجيش، بدأت من عقد على الأقل.

وثمة سبب رابع هام للتنديد بالجندي القاتل وفتح تحقيق ضده، وهو الدعم الأميركي لإسرائيل. فالقانون الأميركي ينص على وقف مساعدات لدولة ما إذا استخدمت قوات الأمن فيها أسلحة أميركية في انتهاكات لحقوق الإنسان. وبادر إلى سن هذا القانون السيناتور باتريك ليهي، الذي طالب وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، هذا الأسبوع بإجراء تحقيق حول ما إذا كانت قوات إسرائيلية تنفذ عمليات إعدام.

رغم كل ما تقدم، فإن الحكم على الجندي القاتل سيكون مخففا، والاتهام قد يكون أقل من القتل غير المتعمد، لتدخل هذه القضية إلى الأرشيفات الإسرائيلية فور ظهور قضية جديدة أخرى من هذا النوع، أو حتى قبل ذلك.