هكذا تغيّر العالم بعد هجمات 11 أيلول

56e1689fc361886a748b45c2
حجم الخط

أدى انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات من القرن العشرين الى عهد متفائل في العلاقات الدولية. وكان يخيل ان فكرة الفيلسوف الأميركي، فرانسيس فوكياما، بشأن «نهاية التاريخ» تتحقق، وان التاريخ الانساني، الذي تميز في الماضي بالصراعات بين الايديولوجيات ونماذج الأنظمة المختلفة وصل الى نهايته بالفعل. من هنا فلاحقا، كما ادعى من يتبنى هذا النهج، سنعيش في عالم تكون فيه للديمقراطية الليبرالية الصدارة في ارجاء العالم دون أن تقف امام تحديات ايديولوجية اخرى.
مع الدخول الى القرن الواحد والعشرين والالفية الثالثة، ادت أحداث الارهاب في 11 ايلول 2001 الى تحطم التوقعات المتفائلة. وبدا دفعة واحدة ان نظرية «صدام الحضارات» المقابلة للبروفيسور الأميركي في العلوم السياسية، صموئيل هنتنغتون، التي تتبنى الفكرة المتشائمة للصراع بين الشعوب والحضارات، أكثر ملاءمة لتحليل الساحة العالمية.
وهكذا، قبل أن يترسب غبار البرجين التوأمين المنهارين، غيرت السياسة الخارجية الأميركية سلوكها بحدة، وبدأت تعمل في ضوء المبادئ المحافظة الجديدة. حولّ هذا الفكر استخدام القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة لغرض فرض أنظمة ليبرالية ديمقراطية محافظة من أجل حقوق الانسان كوسيلة لنشر السلام في العالم حققها أخيرا الرئيس بوش الابن في حربين قادتهما الولايات المتحدة بعيدا عن ارض الوطن، في افغانستان في 2001، وفي العراق في العام 2003.
لقد كان لحربي افغانستان والعراق أثران إقليميان مهمان. الاول، ادتا الى تدمير ميزان القوى في الخليج الفارسي وصعود مكانة ايران، التي فازت بالغنيمة. فواشنطن هي التي الغت التهديد الايديولوجي الذي واجهه نظام آيات الله من الشرق من جانب «طالبان» في افغانستان، ولاحقا، أزالت التهديد العسكري الذي كانت ايران تواجهه من الغرب من جانب نظام صدام حسين في العراق. وهكذا، من خلال الغاء قوة خصميها ودون كسب قوة عسكرية جديدة، تسلقت ايران الى مكانة اقليمية قوية ومهددة. وكنتيجة لذلك، تصعيد العداء التاريخي بين السُنة والشيعة.
تأثير آخر، أقل اتساعا، كان «الانفجار» الديمقراطي الذي سعى الرئيس بوش الابن الى احداثه في ارجاء الشرق الاوسط، والذي عمل اخيرا، ولكن فقط بعد انتهاء دوره وفي ظل تطويره نحو اتجاهات تتعارض مع ما كان مخططا لها.

عدالة تاريخية
وجاء انتخاب اوباما للرئاسة في كانون الثاني 2009 ليبث روح حياة في محبي السلام والحرية في العالم. فقد تحدث «خطاب القاهرة»، الذي القاه اوباما في حزيران من تلك السنة، عن الحاجة الى نشر الديمقراطية وحقوق الانسان في العالم العربي والاسلامي. «الربيع العربي» الذي اندلع بعد نحو سنة من ذلك عبر عن تطلع الكثير من سكان المنطقة الى استبدال الانظمة القمعية بمنظومات سلطوية اكثر انفتاحا وليبرالية.
الانعطافة السياسية للرئيس اوباما وامتناعه عن التدخل العسكري في الشرق الاوسط أديا بقدر كبير الى تدهور «الربيع العربي» الى ازمة اقليمية شديدة، بدلا من أن تؤدي الى التغيير المنشود «لانتشار الديمقراطية وحقوق الانسان»، والى نتائج سلبية عديدة. فقد هجر اوباما حليفه المصري، الرئيس مبارك، ونتيجة لذلك دخلت مصر في فترة فوضى تضمنت ثورتين؛ وأدت اعمال الولايات المتحدة والغرب في ليبيا في نهاية المطاف الى سقوط نظام القذافي وتفكك الدولة؛ وفي اعقاب الحرب الاهلية تحولت سورية الى دولة فاشلة عديمة الحكم الناجع، حيث تنبش قوى أكثر راديكالية – مثل «الدولة الاسلامية»، مجموعات من الثوار المسلحين، ومقاتلي «حزب الله» الى جانب قوى عظمى اقليمية وعالمية – بما فيها تركيا، ايران، الولايات المتحدة وبالاساس روسيا.
كما أدت الحرب في سورية الى الازمة الانسانية الاشد في الزمن الحديث، والتي أدت الى موت نحو نصف مليون نسمة. وكانت سياسة «اقعد ولا تفعل شيئا» للرئيس اوباما، والتي لم تتغير حتى بعد استخدام الاسد للسلاح الكيميائي، ساهمت كثيرا في موجة اللاجئين التي تجتاح الدول الاوروبية. والنتيجة المفارقة يمكن أن تفكر كنوع من تشكل غير مقصود لـ»العدالة التاريخية»: إذ إن اوروبا ذاتها التي خرجت من الشرق الاوسط في نهاية الحرب العالمية الثانية بعد عقود من الظلم الاقتصادي للمنطقة وسكانها، تضطر لتقبل في حضنها الآن أنسال رعاياها في الماضي.
لقد أدت أحداث 11 ايلول الى توسيع التوغل الأميركي في الشرق الاوسط، وضعضعة ميزان القوى الاقليمي، واندلاع «الربيع العربي». ولكن آثار هجمات الارهاب لم تنحصر في نطاق الشرق الاوسط. يبدو أن محاولة نشر الديمقراطية الليبرالية في العالم العربي – الاسلامي ليس فقط لم تنجح بل وبقدر كبير يمكن الاشارة اليها كأحد العوامل التي أدت في نهاية المطاف الى اندثار هذه القيم في العالم الغربي نفسه.
«الشتاء الغربي» الذي يتطور في نصف الكرة الارضية الشمالي – الغني، الديمقراطي والحر في معظمه – يتميز بحركة ليبرالية شاملة تنزلق في اتجاه يميني – فاشي ويساري مناهض للعولمة. فالازمة التي توجد فيها الديمقراطية الليبرالية الغربية تؤدي الى ضعضعة النظام القائم، مثلما وجد تعبيره في صعود قوى اليمين والاحزاب الكارهة للاجانب في اوروبا، وبخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي. وقد تجاوزت اصداء الانفجار ايضا المحيط باتجاه الولايات المتحدة، وهي تجد تعبيرها في صراع مفعم بالكراهية بين القوى الصقرية في الانتخابات للرئاسة الأميركية.

قوة الشبكات
لاستكمال الصورة يجدر بنا التوقف عند تغييرين مهمين آخرين في الساحة الدولية. الاول هو صعود اهمية اللاعبين غير الدول في الساحة الدولية. منظمات الارهاب، مثل تنظيم «القاعدة» الذي نفذ الهجمات الارهابية في 11 ايلول بآثارها الكثيرة، و»الدولة الاسلامية» وصيغة الدولة العتيقة التي أقامها؛ وكذا الافراد – مثل جوليان أسانش، مؤسس موقع التسريبات «ويكيليكس»، الذي أدت المعلومات التي اطلقها الى التوتر في العلاقات بين الولايات المتحدة والكثير من اصدقائها، وادوارد سنودن، المسرب للمعلومات السرية عن برامج الملاحقة لوكالات الأمن الأميركية، والتي أثرت على السياقات في السياسة الخارجية الأميركية ومؤخرا ايضا في السياسة الأميركية نفسها.
التغيير المهم الثاني هو الانتقال من الاعلام التقليدي البطيء والمراقب الى الاعلام الجديد السريع والمنفتح للجميع. فقد أثبتت أحداث «الربيع العربي» في المنطقة بان للشبكات الاجتماعية قدرات على جمع الجماهير الغفيرة للثوران والتظاهر بل واسقاط الانظمة. اما محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا فبينت أن الانظمة هي الاخرى يمكنها أن تستخدم الشبكات الاجتماعية لغرض الحفاظ على حكمها. فهكذا مثلا استخدم الرئيس اردوغان الجماهير للدفاع عن حكمه من خلال بث فيديو في الزمن الحقيقي.
عودة الى الشرق الاوسط تفيد بأن المنطقة، التي اديرت في المئة سنة الاخيرة في ضوء اتفاقات سايكس - بيكو وعلى اساس مبادئ الدول القومية الاوروبية التي تطورت بعد التوقيع على اتفاق «وستفيليا» في العام 1648 بما فيها مناطق عديدة عديمة الحكم اليوم، في سورية وفي العراق، في ليبيا وفي سيناء، استبدلت اجهزة الدولة المفروضة باجهزة ما قبل الدول أو بانعدام الدول التي تجمع حكم العصابات واستخدام الارهاب الفظيع تجاه المدنيين.
في القرن السابق وقعت ثلاث حروب أدت الى تغيير عمومي – الحرب العالمية الاولى والثانية والحرب الباردة. ومع أن القرن الحالي لا يزال في بدايته، فانه سيتماثل أغلب الظن مع الهجمات الارهابية في 11 ايلول التي كانت ضيقة من حيث حجم الهدم وعدد القتلى، ولكن طوفان الاحداث والتغييرات التي وقعت بعدها جعلت العالم مكانا مختلفا وبقدر كبير أكثر خطورة بكثير. دولة إسرائيل، التي توجد في احدى المناطق الاكثر تضعضعا وتحديا في العالم، مطالبة بالتالي بأن تدرس خطواطها بحكمة. عليها ان تشرف على الساحة العالمية بنظرة تاريخية واسعة، تفحص التغييرات بعيدة المدى الكفيلة بان تؤثر على أمنها القومي. ولاحقا سيتطلب الامر من القدس ان تكيف نفسها مع الواقع الجديد، وأن تعمل في ضوئه.