قرار المحكمة الإسرائيلية بطرد وترحيل المواطنين الفلسطينيين سكان قرية سوسيا في مسافر يطا يعيد إلى الأذهان قصة هذه القرية الصامدة التي تعرضت للهدم عدة مرات منذ أن أعلنت عنها الإدارة المدنية لجيش الاحتلال منطقة أثرية. ربما تكون هذه المرة مختلفة بسبب التدخل الدولي القوي، حيث حذرت الإدارة الأميركية إسرائيل من مغبة هدم القرية وحذت حذوها دول أوروبية هددت بعدم دعم إسرائيل في المحافل الدولية إذا ما أقدمت على ترحيل سكان القرية، وهذا ما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى تأجيل قرار الهدم والطرد بحجة أن القضية مرفوعة إلى محكمة العدل العليا للبت فيها بناء على استئناف أهالي القرية. قد تهدم القرية بعد وقت وقد يعود أهلها إلى بنائها من جديد، وتستمر قصة صمود القرية وتحدي أهلها للاحتلال في نضال سلمي مستمر ولا يتوقف عند أي قرار إسرائيلي حتى لو كان من المحكمة العليا التي سبق ورفضت إصدار أمر بوقف إجراءات الهدم في سنوات سابقة.
الموضوع مرة أخرى المناطق المصنفة (ج)، خطايا التصنيف والقبول الفلسطيني به، ونكوص إسرائيل عن تنفيذ ما تبقى من اتفاق "أوسلو"، وخصوصاً الانسحاب الثالث من معظم مناطق (ج) التي تشكل حوالي 60% من مساحة الضفة الغربية والإبقاء على السيطرة الإسرائيلية فقط على المستوطنات والمواقع العسكرية. والمشكلة أن السلطة الفلسطينية مطالبة طوال الوقت بتنفيذ قسطها من التزامات "أوسلو" وخاصة التنسيق الأمني، وإسرائيل ليست مطالبة باستكمال انسحابها. والعالم كله يتوقع أن تستمر السلطة بالتنسيق مع إسرائيل، في حين أن الحكومة الإسرائيلية ترفض مجرد وقف هدم مشاريع إنسانية ينفذها الاتحاد الأوروبي في مناطق (ج) لإغاثة السكان المهجرين والمعرضين دوماً للطرد من الأراضي الفلسطينية المصنفة دولياً بالمحتلة والتي يرفض العالم بأسره كل ما تقوم به إسرائيل في هذه الأراضي التي تشمل الضفة الغربية بكاملها وفي القلب منها القدس.
ربما آن الأوان لأن يجري التركيز ليس فقط على تجميد ووقف الاستيطان بل على ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من أراضي (ج). وبما أن إسرائيل ليست في وارد التوصل إلى اتفاق تسوية دائم ينهي الصراع، فلماذا لا يجري البحث في وقف إجراءات الاحتلال الاستيطانية وتنفيذ انسحاب جدي في الضفة الغربية. قد يقول البعض إن هذا ربما يشكل خطوة انتقالية، ونحن لا نريد حلولاً انتقالية، ولكن هذا يقع في صلب اتفاق "أوسلو" وهو التزام سابق على إسرائيل. وأقل ما يمكن تحقيقه هنا هو الحفاظ على الأرض ومنع تهويدها واستكمال مخطط الاستيطان عليها.
نحن بحاجة إلى التحلي بقدرة على المناورة واتخاذ المواقف التي لا تستطيع إسرائيل الصمود في وجهها. وقد يكون المدخل للتفاوض مجدداً على قضايا منسية منذ وصول العملية السياسية إلى طريق مسدود، وهناك بطبيعة الأحوال مسألة الانسحاب التي تقع ضمن نصوص "أوسلو" الصريحة،
مسألة وقف الاستيطان، وهذا يجب أن يشمل وقف تهويد القدس، والإفراج عن الأسرى والمعتقلين. وقد يكون من المفيد تضمين المبادرات السياسية التي يجري الحديث عنها هذه الأيام قضايا من هذا النوع في إطار ما يسمونه إجراءات بناء الثقة بين الجانبين لإنجاح العملية السياسية. وقد لا تسفر العملية عن شيء باستثناء تحقيق قسم من هذه القضايا، وعندها فقط يمكن تسجيل تحقيق انجاز جزئي ولو بوضع حد لإجراءات الاحتلال وهذا يشكل اختباراً ليس فقط للحكومة الإسرائيلية التي تدعي كذباً أنها تريد التفاوض، بل وللمجتمع الدولي الذي يلومنا على عدم التفاوض، وحتى لا نرجع مرة أخرى لخض المياه وإضاعة الوقت في مفاوضات عقيمة تغطي على ممارسات الاحتلال.
ويمكن أن تتبنى الدول العربية وفي مقدمتها مصر خطة لعودة التفاوض على قاعدة الالتزام بالانسحاب الإسرائيلي وتطبيق ما لم تنفذه إسرائيل من "أوسلو" كمقدمة للتفاوض حول بنود المبادرة العربية للسلام التي تقوم على فكرة الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة منذ عام 1967، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين مقابل السلام وتطبيع العلاقات مع الدول العربية، ودمج هذه الخطة مع المبادرة الفرنسية أو تضمين المبادرة الفرنسية بعض التفاصيل حول هذه البنود، خصوصاً وأن اجتماع باريس خرج باتفاق على تشكيل لجان لبناء الثقة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وتشكيل فرق عمل لدفع هذا الموضوع.
وليعلم الجميع أن إسرائيل تجهز نفسها لمرحلة جديدة لا تكون فيها خاضعة لسلطة "حماس" والضفة الغربية ما بعد الرئيس محمود عباس (أبو مازن). ولا يشغل بالها لا عملية سياسية ولا أي شيء غير الاستفادة من التطورات الإقليمية لجهة تعزيز علاقاتها بدول الإقليم والمجموعات الدولية المهمة مثل دول إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وهناك استعدادات حقيقية لحرب شاملة على غزة يتم في إطارها إسقاط حكم "حماس" على اعتبار أنها لم تشكل ورقة سياسية مهمة لمقارعة القيادة والإثبات أن إسرائيل لا يمكنها الانسحاب من الضفة بسبب احتمال سيطرة "حماس" وجهات متطرفة على الضفة. ففي إسرائيل الآن حكومة تصر على الاحتفاظ بالضفة لأسباب أيديولوجية ولا يهمها كيف ينظر العالم لخطواتها. لهذا السبب يحتل موضوع الوحدة الوطنية أولوية قصوى، وكذا وضع العالم أمام اختبار حقيقي جديد.