بعد لقاءات الرئيسين الروسي والتركي في بطرسبيرغ، جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، يوم الجمعة الماضي، إلى أنقرة، ولقاء المسؤولين الأتراك في اجتماعات متعددة هناك، ليعلن الطرفان أن تعاوناً أكبر سيحدث في سورية قريباً. والواقع أنّ هذه اللقاءات تطرح احتمالية تشكل محور، أو إطار تنسيقي، روسي-تركي-إيراني، يناقش مصالح واهتمامات هذه الدول في المنطقة العربية، وذلك في ظل غياب قدرة عربية على حسم أي ملف، وفي ظل العجز أو التردد الأميركي إزاء لعب دور فاعل. هذا فضلا عن وجود مصالح متعارضة حيناً، ومشتركة حيناً، بين هذه الدول في المنطقة العربية.
هناك مصالح تجارية بين هذه الدول. فمثلا، روسيا تصدر لتركيا بضائع بنحو 15 مليار دولار سنويا، وترسل إليها ملايين السياح، وتستورد الخضار والفواكه التركية. وتركيا خامس أكبر مستورد من إيران، وثالث أكبر مصدر لها. وروسيا مورد أساسي لإيران في مجالات استراتيجية، مثل الطاقة النووية والسلاح.
عدا الموقف من النظام السوري، ومساندته من قبل إيران وروسيا، ومناهضته من قبل أنقرة، هناك مصالح وتوجهات مختلفة للدول الثلاث، بشأن بعض تفاصيل الملف السوري. فتركيا وإيران تهتمان بالملف الكردي، ومنع تطور الحالة الكردية في سورية، لما لذلك من انعكاسات ممكنة بشأن المسألة الكردية المتفجرة في كل منهما. لذلك، فواحدة من الملفات التي قد تجري مقايضات بشأنها مع الروس، هي تخفيفهم لدعم الأكراد، والتلويح بقبول منطقة حكم فدرالي كردي في سورية، مقابل مرونة تركية نسبية بشأن مستقبل نظام بشار الأسد. وتشترك الدول الثلاث، خصوصا روسيا وإيران، في العداء لتنظيم "داعش" والسلفيات الجهادية عموماً، والتي يمكن أن تتحول لمصدر دعم لسلفيين يتجهون إلى مناطق المسلمين في روسيا، مثل داغستان والشيشان، فضلا عن عدائهم لإيران والشيعة. وتريد طهران وموسكو من أنقرة موقفا أكثر حزماً ضد هؤلاء، وخصوصاً تجفيف أي مصدر دعم لهم يمر عبر تركيا.
تقوم كل من تركيا وروسيا بتنسيق وتطوير علاقاتهما مع الإسرائيليين، وتسهمان بشكل أو آخر في تنسيق غير مباشر مع طهران، على الأقل من حيث ضمان عدم وجود صدام إيراني-اسرائيلي، حقيقي وواسع، في سورية.
هذه الدول، الثلاث، قد تجد نفسها أمام العجز العربي عن حسم أي ملف في المنطقة، خصوصاً في سورية واليمن ولبنان، وانشغال مصر بوضعها الداخلي، وتراجع أهمية الموضوع الفلسطيني كثيرا في حسابات الدول العربية الرئيسة، مضطرة، أو أمام فرصة، لتشكيل آلية تنسيق، تحدد من خلالها مواقفها لرسم خريطة المنطقة، جزئياً على الأقل، مع التنسيق مع الطرف الاسرائيلي، بشكل مباشر حيناً وغير مباشر حيناً آخر، باعتبار الإسرائيليين أصحاب مصالح، وقدرة على التأثير في بعض الملفات المهمة لهذه الدول.
ويساعد على ظهور هذا المحور/ الإطار التنسيقي، ضعف السياسات الدولية في المنطقة، وفي مقدمتها سياسات الولايات المتحدة الأميركية، التي استنكفت أثناء عهد إدارة باراك أوباما، عن الإلقاء بالثقل الأميركي في أي ملف تقريباً. لكن حتى إذا جرى انتخاب رئيس أميركي جديد، لديه عزم على دور أكبر في المنطقة، فإنّ هذه الدول الثلاث ستستمر في امتلاك القدرة على التأثير في السياسة الأميركية إلى حد كبير، خصوصا مع وجود مصالح مشتركة لها مع واشنطن، بقدر ما لها من خلافات معها. فمثلا، هناك إطار تنسيق روسي-أميركي في سورية لم يعد سهلا التراجع عنه. وهناك انفراج في العلاقات الإيرانية-الأميركية، يشمل احتمالات التعاون في سورية والعراق وأفغانستان، هذا فضلا عن العلاقات التقليدية التركية-الأميركية. وقد تستغل هذه الدول الثلاث العلاقات ما بينها كورقة مناورة في وجه واشنطن، أو للضغط عليها.
العامل الأساسي الذي قد يدعم هذا السيناريو وتطوره، هو ضعف الأداء العربي، والتفكك في السياسات العربية، وانشغال أكثر من دولة بملفاتها وحروبها وصراعاتها الداخلية، وعدم قدرة الدول العربية الأساسية على بلورة نظام عربي، أو حسم ملفات الصراع في الدول الأخرى، أو لعب دور مؤثر في ملفات مثل الموضوع الفلسطيني.