لا «صفقة» روسية ناجحة لتسويق «بقاء الأسد»

thumbgen (7)
حجم الخط

كان الخصام الناشب حالياً بين تركيا والولايات المتحدة سبباً وجيهاً لتزخيم احتضانٍ روسي ثم إيراني لرجب طيب أردوغان، بعدما أشعرته موسكو في الخريف الماضي، بعقوباتها وإشهارها العداء له غداة إسقاط «السوخوي»، بأنها في صدد شطب تركيا من أي معادلة نفوذ إقليمية خاصة بسورية. خلال تلك المحنة، بخسائرها الاقتصادية المحققة وتداعياتها السياسية غير القابلة للضبط، لم يبذل «الحليف» الأميركي أي جهد لطمأنة أنقرة ولم يخرج «الناتو» عن تضامنٍ معنوي غير مجدٍ. لم تكن تلك المرّة الأولى التي يشعر فيها الأتراك، منذ بدء الأزمة السورية، بأن واشنطن تخذلهم وتعرقل كل خططهم مع حلفائهم العرب، وفيما تكبّل أي دعم للمعارضة السورية بكمٍّ هائلٍ من الشروط إلا أنها تتعايش مع كل التدخّلات الأخرى أو تشجّعها، سواء كانت روسية أو إيرانية أو إسرائيلية.

ومع أن أنقرة لم تتبنَّ بعد رواية علنية متكاملة لـ «الدور الخارجي» في المحاولة الانقلابية، إلا أنها مقتنعة على الأقل بأن روسيا وإيران كانتا خارج «المؤامرة». ولعل وقوع المحاولة بعد أسبوعين على توقيع اتفاق تطبيع العلاقات مع إسرائيل حال دون الاشتباه بالأخيرة رغم اتهامات سابقة لها بعلاقات مع جماعة فتح الله غولن. لذلك بقيت فرضية الدور الأميركي قوية، شرط التوصل الى إثباتها، وبالأخص تحديد دوافعها وأهدافها. خلافاً للعواصم الأوروبية التي اشتبكت سياسياً وإعلامياً مع أنقرة على خلفية حملة «التطهير» العسكرية والمدنية لـ «الغولنيين» المفترضين واحتمال معاودة العمل بعقوبة الإعدام، التزمت واشنطن لهجةً نقديةً غير مستفزّةٍ لعلمها بأن البلدين مقبلان على مرحلة شائكة وأن الأفضل احتواء الصعوبات ديبلوماسياً بدل مفاقمتها بالمساجلات العلنية. ويكفي أن أردوغان قصد سانت بطرسبرغ للقاء فلاديمير بوتين، وسط تصاعد مشاعر العداء لأميركا في الشارع التركي.

هل يكفي ذلك لافتراض أن هذا اللقاء حصل فعلاً عند مفترق طرق لتركيا؟ هناك من ذهب بعيداً في المقارنة بين اللحظة الأردوغانية الراهنة واللحظة التي اتجه فيها جمال عبد الناصر نحو الاتحاد السوفياتي، رغم اختلاف الظروف، وحتى اختلاف الرجلَين. فمهما بلغت المرارة عند الرئيس التركي، فإنها لا تحجب براغماتيته، ثم أن مصالحته مع بوتين كــانت دخلت صلب سياسته الجديدة قـــبل محاولة إطاحته، ولا شك في أنه يعرف ماذا يريد من روسيا وماذا يريد بوتين منه، وعلى افتراض أنه يــــرغب في إحداث تغييرٍ ما في خيارات تركيا إلا أنه لا يستطيع المـــقامرة بمصالحها مع الغرب لقاء مكاسب لن يقدمها بوتين مجرّدة من التوظيف الاستقطابي.

عدا استعادة التبادل التجاري وإحياء المشاريع الكبرى مع روسيا، وهذان فيهما مصلحة للطرفين، وعدا تبعات المحاولة الانقلابية التي يمكن أن تكون لدى موسكو معطيات استخبارية مفيدة في شأنها، فلا شك في أن الهمّ الرئيسي الذي يشغل أردوغان له عنوان معروف: المسألة الكردية. وبات الشأن السوري يأتي بعدها أو في سياقها.

وفي الاثنين، لم يكن الأميركيون واضحين ولا مطمئنين ولا متعاونين، بل على العكس بالغوا في اللعب بـ«الورقة الكردية» سورياً الى حدّ ساهم في إشعالها تركياً، حتى أن معيار «الإرهاب» الذي أشهرته أميركا واوروبا ضد «حزب العمال الكردستاني» (بي كي كي) لم يعد قائماً رغم العمليات التي ارتكبها في العديد من المدن. وقد انتقدت أنقرة مراراً الدول الغربية واعتبرت أنها تكيل مواقفها من الإرهاب بمكيالَين. لكن القلق التركي تحوّل هلعاً مع ظهور توافق- وأحياناً تنافس أميركي - روسي للاعتماد على الأكراد كطرف وحيد صالح لمحاربة «داعش».

لم تكن تركيا وحدها التي استشعرت الخطر. فإيران ونظام بشار الأسد كانا استخدما «بي كي كي» وفرعه السوري لمناكفة تركيا، ونسّقا تحركاته مع انتشار تنظيم «داعش» لضرب المعارضة، إلا أنهما وجدا هذه الورقة تنزلق من أيديهما لتستقرّ عند الأميركيين في استخدامهم الأكراد لضرب «داعش». ثم وجدا أن موسكو فتحت خطّاً مع الأكراد، ورمت فكرة «الفيديرالية» لتعرب عن انفتاحها على مشروع الإقليم الكردي، كما وافقت على ممثلية لـ«حزب الاتحاد الديموقراطي» وتبنّت بإصرار تمثيله في وفد المعارضة الى مفاوضات جنيف رغم علمها بأن لا موقع له في المعارضة التي تقاتل النظام.

وبعدما أدارت طهران ودمشق فرع «بي كي كي» السوري لإضعاف المعارضة أولاً، ثم لتوظيف «إقليمه» المفترض كقاطرة للتقسيم وفقاً لرؤيتهما، إذ بهما الآن يتقاسمان المخاوف نفسها مع تركيا، وإذ بالتوافق على «وحدة سورية» يصبح أبرز رسائل زيارة وزير الخارجية الإيراني لأنقرة. ولعلها مرّة أولى ونـــادرة تُظـــهر فيها إيران اهتـــماماً رسمياً بـ «وحدة» بلد يواصل فيه حليفها الأسد مع ميلــيشياتها، خصوصاً «حزب الله»، تنــفيذ مشاريع لاقتلاع السكان والتغيير الديموغرافي.

هل يعني ذلك أن إيران تخلّت نهائياً عن اللعب بالورقة الكردية؟ ربما. لكن ماذا عن روسيا، فهل تستطيع توفير ضمانات لتركيا بمعارضة إقامة إقليم كردي على شريطها الحدودي مع سورية، وهل تستطيع احترام ضمانات كهذه مع علمها بأن أميركا تريد مكافأة الأكراد على محاربتهم «داعش»، وبالتالي إذا قرّرت وضع «فيتو» على الإقليم فمقابل ماذا؟... ثمّة أولوية روسية الآن، وهي عدم الفشل في سورية. لكن تجربتها خلال عام لم تأتِها سوى بمؤشّرات نجاح ضئيلة تدين بمعظمها لتواطؤ- تعاون أميركي. صحيح أنها من نوع الدول التي تقتل المدنيين بدم بارد وتدمّر المستشفيات والمدارس والمخابز بلا تردّد، ولا تهزّها اتهامات بجرائم حرب، إلا أن كل ذلك يورّطها أكثر مما يسهّل مهمتها. والمؤكّد أنها لم تعد ترى إمكاناً للنجاح بالاعتماد على قوات النظام المتهالكة أو على ميليشيات مهووسة بالأجندة الإيرانية. وحتى حصار حلب، الذي ساهمت فيه بعدما كانت ترفضه، ارتدّ على حلفائها في شكل أتاح لأردوغان المجيء الى اللقاء مع بوتين واثقاً وليس صاغراً.

مع ذلك، شكّل ذلك اللقاء فرصة لمعاينة إمكان استقطاب تركيا سورياً، فهي كانت خفّضت منذ تنصيب حكومتها الحالية من حدّة مطالبتها بـ «رحيل الأسد»، وأبدت استعداداً لشيء من الانفتاح على نظامه. وقبل ذلك، كانت تركيا لبّت كل الشروط الأميركية سواء بحجب الأسلحة النوعية عن المعارضة «المعتدلة» أو بالضغط لمنعها من توسيع رقعة سيطرتها الى مناطق حسّاسة مذهبياً أو حتى للتعامل بمرونة مع محدّدات للتفاوض وللحل السياسي تعتبرها المعارضة مجحفة. وبما أن هذه الشروط كانت منبثقة أساساً من التفاهمات الأميركية - الروسية، فإن أي «تنازلات» إضافية، ومنها خصوصاً عدم الخوض بـ «مصير الأسد» رحيلاً أو بقاءً، أو تأجيله أو حتى تجاهله، تستطيع موسكو المساومة عليها مع واشنطن أو أنقرة أو سواهما، ولا يمكنها إجبار المعارضة على قبولها.

كانت روسيا تصوّرت، أو صوّر لها النظام والإيرانيون، أن حصار حلب كافٍ لتصفية المعارضة وتمرير «حلّهم» السياسي المنشود. وقد تكون المداولات الأخيرة مع الأميركيين، والليونة المستجدّة في مواقف تركيا (قبل زيارة أردوغان)، ساهمت في تشجيع الروس على هذه المغامرة. لكن إذا كان الأميركيون يخذلون المعارضة السورية تفادياً لأي تنازل لروسيا في مكان آخر (اوكرانيا مثلاً)،فإن الأتراك لا يملكون خياراً كهذا لأن التخلّي عن المعارضة أو التورّط بتصفيتها يعني خروجهم من المعادلة بإرادتهم مع وجود أكثر من مليونَي لاجئ سوري لديهم. وعدا أن الروس يتجاهلون أطرافاً معنيّة أخرى، عربية وغير عربية، فإنهم بإصرارهم المحموم على بقاء الأسد يفتقدون لأبسط قواعد التسويق، اذ ليست لديهم حتى الآن أي «صفقة» يعرضونها على الآخرين لقبول بقاء هذا الرجل ونظامه، وليست لديهم صيغة خلاقة لحل سياسي متوازن. فتارة يعرضونه لقاء «محاربة الإرهاب»، وتارةً أخرى لقاء «هدنة 3 ساعات»، وطوراً لقاء إطلاق المفاوضات أو إدارة مرحلة الاستنزاف في انتظار الإدارة الأميركية المقبلة. وعندما تكون السلعة مضروبة، فلا عجب أن يكون الإتجار بها فاشلاً.