حتى في ساعة الرحيل والموكب الأخير نحو النهاية، لم تترك لنا الحرب متسعاً للاحتفاء أو لرثاء الرجل الذي كان مؤشر الراديو في تلك اللحظة يعيد قراءة ما كتب بين غارتين. فقد عدّ سميح أنفاسه الأخيرة أثناء عدوان 2014، فيما كان وكنا وكانت وسائل الإعلام والفضائيات مأخوذة بهول جنون دولة فقدت عقلها. هكذا غادر الرجل الذي ملأ الدنيا ضجيجاً؛ لأن صوت النار المبثوثة من تنين الطائرات كان يعلو على صوت الشعر والشاعر.
لم نكتب عن سميح الذي كتب عنا وكتبَنا في سنوات الظلام. شاعر الثورة الذي ظل متمرداً حتى الزفير الأخير أو الزئير الأخير لمن وجد نفسه بسبب مزحة سمجة للتاريخ في الأسر، وكان عليه أن يثبت حضوره اليومي في مركز الشرطة حتى لا يخلو بنفسه مع القلم والقصيدة التي تحولت إلى قنابل عنقودية لشعب غاضب، تنفجر في وجه الاحتلال في كل الشوارع والأزقة والساحات.
رحل سميح على وقع القنابل واهتزاز الأرض، التي زرع بذور ثورتها شعراً مع جيل من شعراء الداخل: محمود درويش، وتوفيق زياد، اللذين ألهمانا حب الوطن على صدر حيفا التي ظل السؤال حولها حائراً: لماذا حيفا بالذات هي من يهدينا كل هذا العبق من الشعر والحب وتحتكر أجمل ما فينا منذ أن كان شاعرنا سميح طفل يلهو في الطريق من المدرسة عند محطة القطار ثم جريدة "الاتحاد" اليسارية التي جمعت كل هؤلاء على ناصية الوطن، ليصرخ شاعرنا الذي غادر في مثل هذه الأيام: تقدموا تقدموا..؟
وتتحول مقولة الشاعر إلى نشيدنا الوطني وسارية أعلامنا وشراع سفينتنا، وسط أنواء البحار، شعاراً للنصر وسط هزائم العرب وتراجعهم، ولا مجال للتراجع أو لا خيار أمامنا لأن شواطئ أندلسنا قد أحرقت كل المراكب، وليس أمامنا سوى درب واحد ملغم بالأكفان ورائحة الشهداء؛ لأن هناك ضوءاً ينبعث من نهاية الطريق، ولا دروب أخرى تركها لنا التاريخ لنتحايل على ذاتنا المقهورة بالرحيل واللجوء وخرائط المنافي.
لم يختر سميح المنفى مثل رفيق دربه الطويل محمود درويش الذي أراد أن يحمي جلد قصيدته من سلخ الجزار المتوثب بسكين الذبح المسنونة على حجارة البيت الكنعاني. اختار محمود المنفى ليملأ العالم شعراً وليشكل أحد أساطيل الثورة في معركة الصمود؛ فما أنتجه على امتداد المنافي أقنعنا بجدارة الرحيل.
لكن سميح اختار البقاء بعناد أسطوري، وقرر أن ينطح بقلمه أعتى صخور ما أنتجته مصانع الأسلحة وأجهزة الأمن التي كانت تحشو كاميرا التسجيل على الورقة البيضاء التي يكتب عليها، وظل فقيراً ليكتب ذات مرة، مستذكراً سنوات عمله في المجلة، كيف كان دائم التحايل على محاسب الجريدة؛ ليقنعه بسلفة مالية كل منتصف شهر؛ لأن مكافأة الشاعر كانت أقل كثيراً من عامل النظافة في دولة كانت سوقاً مفتوحة للعمل وللثراء، لكنه اختار رأسمال الشعر المغمس بالكبرياء.
في ثمانينات القرن الماضي، تلقى سميح القاسم رسالة من صديق مغامرات الطفولة والشباب وخزانة الثياب محمود درويش، يطالبه فيها بأن يكتب اسميهما على شجرة الخروبة التي كانا يلهوان عندها. هكذا كتب محمود في رسالته: "سلام عليك يا حارس الخروبة من أغاني الآخرين.. أرجوك.. أرجوك إن مررت بها غداً أن تعانقها وأن تحفر على جذعها اسمك واسمي".
ردّ سميح في لعبة الرسائل التي اكتشفها الشاعران التوأم، والتي اعتبرت أجمل ما كتب في الأدب الفلسطيني، فكتب بما يعكس ثورية وإنسانية نادرة، قائلاً: "منذ فراقنا وأنا أتهرب من أنقاض البروة وزيتونها وخروبها وصبارها وحين أمر بها أحاول إشغال نفسي بأمر ما؛ لأتجنب النظر حتى لا أضبط متلبساً بالنظر صوبها... لا تغبطني على إقامتي.. جحيم هنا.. جحيم هناك.. جحيم إلى يوم الجنة.. يوم يلوح أطفال فلسطين بأعلام فلسطين في مراسم استقبال ضيف رسمي أو في طقوس العيد المقدس الكبير.. عيد العودة والحرية والاستقلال".
ثم ختم رسالته: "أرجوك أن تعذرني. لن أزور شجرة طفولتك ولن أحفر عليها اسمينا. ببساطة وبصراحة تامة، لا أستطيع. شيء آخر أستطيعه من أجلي ومن أجلك هو أن أحفر اسمينا على الريح وأن أنقش الريح على الوطن وأن أكتب الوطن على لحمي وأن أنثر لحمي في القصيدة".
سميح شاعرنا الفلسطيني الدرزي جسد أجمل ما في الوطن من انصهار للمذاهب والطوائف ليرسم لوحة الهوية التي ترسخت على امتداد تاريخنا الكنعاني على هذه الأرض، ظل ينتظر عيد العودة والاستقلال. رحل في واحدة من معاركنا، عندما كانت السماء تمطر لهباً وحرائق وقنابل، وكنا نستقبلها منتصبي القامة كما كان يطالبنا دون أن نسمح للهزيمة أن تطأ عتبة جباهنا.
ولكن في لحظة الذكرى، التي حرمنا من مراثيها لحظة الوداع، علينا أن نعترف بقصورنا في حق الذي نثر لحمه بالقصيدة. فسلام لك وسلام عليك وعلى ذاك الضريح الراقد في حيفا يا حارس الخروبة الذي اقتطع متراً من رخام في قلب الوطن؛ ليقول: إنا هنا باقون نحرس جذور الأشجار حتى يكتب أولادنا أسماءهم عليها.