تأخرت المستشرقة في الرد ثلاثة أيام، وفي الرابع اعتذرت، باللغة الركيكة نفسها، عن التأخير، فأمها التي تقيم في بيت لكبار السن مريضة، وتعيش في مدينة بعيدة (محاولة لتطبيع العلاقة بين الشخصي والعام، وهذا من فواتح الشهيّة والكلام).
وشكرته، طبعاً، على القصائد البديعة (رديئة، والحق يُقال)، وقد شعرتْ بنوع من الامتياز لأنها تمكنت من الاطلاع على قصائد كهذه قبل نشرها (مزيد من التطبيع)، وسألته إن كان في وسعه تفسير المشترك اللغوي والدلالي والجمالي بين درويش وبقية الشعراء الفلسطينيين، وعن ميراث وتقاليد الأدب الفلسطيني وعلاماته البارزة.
كانت حكاية "المشترك" معقّدة نوعاً ما، وكان القصد الإيحاء بما تنطوي عليه الأبحاث الأكاديمية من تنغيص، ومصطلحات، تمنح الرسالة قدراً أكبر من الجدية، بعد زيارة الأم المريضة.
رد الشاعر برسالة طويلة أوّلَ فيها، ودلّل، وحلّل، وعلّل (بعد الاستفسار عن صحة الأم المريضة) كيف نجح درويش في "استعارة" الكثير من أخيلة، ومجازات، ومفردات، وأفكار شعراء آخرين، وأسهب، وأطنب، في ذكر أسماء، وأمثلة، وشواهد، ولكن جانباً لا بأس به من الشواهد جاء (وهل نتوقع غير ذلك) من قصائد الشاعر نفسه، الذي سبق درويش في قول هذا وذاك، وقد بدا في معرض التدليل على هذه "الحقيقة" وكأنه ضحية مثالية في عالم لا يرحم، ولا يريد أن يفهم.
وفي السياق نفسه، أنحى الشاعر باللائمة على المؤسسات الفلسطينية التي لا تهتم بتعميم وترجمة الأدب الفلسطيني إلى لغات العالم، وختم بذكريات وانطباعات، لا تخلو من إيحاءات ذكورية (تنم عن ذوق سقيم، في الواقع) عن بلدان إسكندنافية، وعن أمل في زيارة تلك البلاد، إذا سنحت الفرصة في ندوة أو مهرجان، (مثلاً)، وتمنى على صديقته المستشرقة ألا تتردد في طلب المساعدة، وأضاف في المرفقات المزيد من القصائد (مكتوبة بمفردات من نشارة الخشب، والحق يُقال)، وتجاهل سؤال التقاليد، والميراث الأدبي، والعلامات البارزة.
قبل الوصول إلى خاتمة اللعبة، أود استرجاع واقعة طريفة، ووثيقة الصلة، في جانب منها، بموضوعنا.
أيام بيروت، كانت لأحد أصدقائي، وهو فنان تشكيلي عراقي، شطحات سوريالية عجيبة، وقد ابتكر لنفسه طقساً قال إنه أفضل أنواع "المازة" مع كأس العرق. اكتشفتُ الطقس الجديد عندما رأيته يقص قصيدة لصديق لبناني مشترك (يكتب قصائد سوريالية، غير مفهومة، وعجيبة أيضاً)، كل سطر بمفرده، ويضع القصاصات، بعد خلطها، في جيبه. وفسّر طقسه على النحو التالي:
يُخرج، في البيت، خليط القصاصات، ويضعها بلا ترتيب على الطاولة، وإلى جانبها كأس العرق، وكلما تناول جرعة من الكأس، تناول قصاصات وقرأ ما فيها بصوت مرتفع، وأعاد القراءة بعد خلطها مرّة ثانية وثالثة: حينها ينفجر ضحكٌ في أعماقه، قوي، فتي، ساخر، وساحر، حرّضت عليه مفردات وعبارات تبدو عبثية، تماماً، لكنها توحي بأخيلة ودلالات فنية، لا تخطر على بال أحد (كما قال) نشأت مِنْ، وفي، فوضى القصاصات، (ونشوة العرق، بالتأكيد).
لم يكن محمود درويش سوريالياً، بل كان أقرب إلى خرّيج مدرسة إنكليزية في العهد الفيكتوري منه إلى الصورة النمطية الشائعة، والكاذبة، عن الشعراء ككائنات بوهيمية تسكنها شطحات وفوضى تبرر سلوكهم الملتوي والغريب.
ومع ذلك، كان في قراءة رسائل الشاعر إلى "صديقته" المستشرقة، في الجلسات الصباحية، ما يؤثث مسرحاً للعبث، ويجلب الكثير من الفكاهة والضحك.
لا يعرف الشاعر المسكين (وحان أن يعرف) كم ضحك محمود، الذي أصبح، الآن، متآمراً، وعاد، شقياً وعفياً، أربعين عاماً إلى الوراء.
ومع هذا كله، لم ينج الأمر من قدر من الجدية، فكل عبارة يمكن تأويلها بطرق مختلفة.
وكان في تحليل العبارات والمفردات والدلالات والإيحاءات مع ملك من ملوك المفارقة، والسخرية، وساحر من سحرة الكلام، ما يضفي على تلك الصباحات البعيدة سمة "الدرس اللغوي"، ولكن بلا صرامة ميشيل فوكو المنهجية، ومع قليل من "ولدنة" جاك دريدا اللغوية. (يبدأ صباح "السكاكيني"، عادة، بعد العاشرة، لمَنْ يهمه الأمر، وقد يظل الصباح صباحاً حتى الثانية بعد الظهر، ما لم يقطعه القدوم المفاجئ لآخرين، ويمكن استئناف الصباح بعدها، إذا كانت الزيارات قصيرة).
ثمة تفاصيل كثيرة في هذا الشأن. المهم، بعد عدد من الرسائل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، لم تعد اللعبة مسلية.
تبخّرت المستشرقة ذات يوم، وضاع بريدها في الفضاء الإلكتروني السحيق. والخلاصة: كان ارتياب محمود درويش في أشخاص يكرهونه في السر، والعلن، لاعتقادهم بأنه أكثر شاعرية منهم، أو يسد عليهم طريق المجد، جزءاً من عذابه الشخصي، خاصة في سنواته الأخيرة. ومع ذلك، لا ينبغي تصوير الأمر بطريقة مأساوية، تماماً.
ففي مناسبات مختلفة، كان يردد بقدر محسوب من الرثاء الذاتي، وفي معرض الكلام عن خيبة أمل بهذا الشخص أو ذاك: كنتُ في الماضي أكثر ذكاءً. والواقع، أن ذكاءه اللامع لم ينقص، ولكن محمود درويش أصبح، مع التقدّم في السن، والإحساس بنفاد الوقت، أكثر ميلاً إلى التسامح، وغض النظر.
آذته الصغائر، هذا صحيح (ولم تكن كلها، بالضرورة، من شعراء).
ولكنه لم يبادل الكارهين في السر، والعلن، كراهية بكراهية، بل كان يبدي نوعاً من الشفقة، أحياناً، ويعبّر عنه ازدراء مترفع ورفيع، أحياناً. وفي الحالتين، كان لديه ما هو أهم من الشفقة والازدراء:
كيف يمكن، في ربع الساعة الأخير، أن يكون شاعراً أفضل، وعاشقاً وفياً، بكامل أناقته ولياقته، لـ "سيدة الأرض، أم البدايات، وأم النهايات".