في أوسع حملة عسكرية منذ انتهاء حرب «الجرف الصامد»، شنّت إسرائيل غاراتٍ مكثفة على مواقع المقاومة في قطاع غزة. ولاحظ كثيرون أن الجيش الإسرائيلي، تحت قيادة وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، يحاول إثبات قدرات عملياتية لم تمارس بهذه الكثافة حتى في زمن الحرب الأخيرة. وهذا ما دفع قياديين في «حماس» لاعتبار الغارات محاولة إسرائيلية لتغيير قواعد اللعبة. ولكن خبراء عسكريين إسرائيليين قالوا إن غارات اليومين الأخيرين لن تغير شيئاً في الواقع.
ورغم أن الصواريخ أطلقت من غزة مرات عدة منذ انتهاء حرب «الجرف الصامد» قبل عامين، إلا أن الغارات الإسرائيلية تميزت هذه المرة بكثافة كبيرة. وأعلن قائد في الجيش الإسرائيلي أنه خلال ساعتين تمت مهاجمة أكثر من خمسين موقعاً للمقاومة الفلسطينية في القطاع. ومن الواضح أن كثافة النيران الإسرائيلية كانت أكثر من رد على صاروخ سقط في «سديروت»، وهي في الواقع محاولة لإيصال رسالة بأن الظروف تغيرت، وأن إسرائيل لا تخشى التصعيد. لكن طبيعة القصف الإسرائيلي والأهداف تظهر أن الغارات كانت أقرب إلى استعراض العضلات منها إلى واقع جديد يراد فرضه.
فتقرير مراقب الدولة العبرية عن حرب غزة الأخيرة لا يزال يدوي في المحافل الإسرائيلية رغم عدم صدوره رسمياً حتى الآن. وهناك تقدير بأن شيئاً لم يتغير، لا على طبيعة الأداء الحكومي ولا في تدريبات وتسليح الجيش، ولا حتى في حماية الجبهة الداخلية. وفي نظر الكثيرين، فإن نتيجة أي مواجهة جديدة لن تكون مغايرة جوهرياً عن نتائج الجولة السابقة رغم تبني ليبرمان لنظرية «الحسم» مع «حماس»، فما يهم ليس النظرية، وإنما التطبيق وأدوات تحقيق ذلك.
في كل حال، كان الرد الإسرائيلي على صاروخ «سديروت» في اليوم الأول محدوداً، لكن الرد على الاستعراض العسكري لـ «حماس» في رفح في ذكرى شهدائها كان موسعاً. ومعروف أن «حماس» حققت درجة من الردع المتبادل مع إسرائيل، وهي ليست في وارد التنازل عن ذلك. وإذا كانت الظروف الميدانية تميل إلى التهدئة، فإن المقاومة في غزة تظهر استعداداً للرد، وبشدة، على إسرائيل إذا تكرر العدوان. وكانت هذه هي رسالة الاستعراض العسكري في رفح، والتي أعقبت الرّد الإسرائيلي الأولي على صاروخ «سديروت».
وكان قادة عسكريون إسرائيليون تبجحوا بعد موجة الغارات بأن «الرد الأولي على صاروخ سديروت كان جزءاً من نظام الرد الدائم وفق الأوامر والتعليمات. والحديث يدور عن هجوم استثنائي بالنسبة لعدد الأهداف. فقد انتهكت سيادتنا وتقرر الرد بالطريقة التي نظن أنها الأنسب بما في ذلك مهاجمة البنية التحتية للإرهاب. وقد دمجت في الرد قدرات كثيرة، ونحن نعرف تقارير حماس».
وكان واضحاً من السلوك الإسرائيلي أن التقدير السائد لديهم هو ميل «حماس» والمقاومة في غزة لعدم الرد خشية التصعيد. وقد أرسلت إسرائيل رسائل ضمنية مفادها أنها غير معنية بالتصعيد وأنها ستواصل التسهيلات. وقال مسؤول إسرائيلي إنه خلال يوم الغارات «دخلت إلى غزة 1000 شاحنة، ولا نية لدينا بالتصعيد، ولكننا ننوي المحافظة على إنجاز الردع الذي تحقق في حرب الجرف الصامد».
وبحسب معلقين عسكريين إسرائيليين، فإن غارات أمس الأول الليلية كانت جزءاً من خطة معدة سلفاً لاستهداف مواقع ضمن «بنك الأهداف». وقال مسؤول عسكري إن «لدينا النية لمعالجة أمر البنى التحتية للإرهاب في القطاع. وقد هاجمنا عشرات الأهداف، وبالتأكيد نحن نتحدث عن رد فعل استثنائي».
وأشار المعلق العسكري لصحيفة «هآرتس»، عاموس هارئيل، إلى أن إسرائيل بغاراتها الليلية فعلت «ما يبدو أنها محاولة أولية لتغيير قواعد اللعب في قطاع غزة. وقبل ذلك، كانت الأمور تجري بطريقة معروفة لتوتر موضعي يخترق حدود قطاع غزة مرة كل بضعة شهور منذ انتهاء الجرف الصامد قبل عامين». ومع ذلك، اعتبر أن الهجمات الإسرائيلية «لم تخرج عن الرد المعروف، فقد تم توجيهها نحو مواقع مراقبة حماس القريبة من الحدود ولم توقع خسائر، ولكن كان لها هدف مزدوج: التوضيح بأن إسرائيل ترى في حكومة حماس الجهة المسؤولة عن الحفاظ على الهدوء على الحدود، وإلى جانب ذلك جباية ثمنٍ تكتيكي، ضرب وسائل الرصد لدى حماس التي يحصل بواسطتها الذراع العسكري على معلوماته الاستخبارية عن نشاطات الجيش الإسرائيلي على الحدود. وهكذا، بشكل أو بآخر، ردت إسرائيل في الماضي أيضاً، حينما أطلقت منظمات فلسطينية صواريخ نحو النقب الشمالي».
واعتبر هارئيل أن الرد الإسرائيلي هذه المرة كان «أوسع وأشد»، وأنه يرتبط بالخط الذي أملاه أفيغدور ليبرمان. ومعروف أن ليبرمان تحدث مراراً في الماضي عن الحاجة إلى انتهاج خط متشدد ضد حكم «حماس» في القطاع. وقد لطف ليبرمان مواقفه هذه بعد توليه وزارة الدفاع، لكنه كرر مؤخراً موقفه بضرورة إسقاط حكم «حماس». ولكن نتنياهو الذي جرّب الحرب في غزة، لا يبدو، وفق هارئيل، ميالاً لعملية واسعة في القطاع، وهو يفضل عدم التورط في حرب جديدة هناك.
أما المعلق العسكري لموقع «والا»، أمير بوحبوط، فكتب أنه رغم ترحيب البعض في إسرائيل بالرد العنيف والواسع، إلا أنه ليس في ذلك ما يعزي مستوطني غلاف غزة. وفي نظره، فإن الغارات هي «بالإجمال أكثر من البضاعة نفسها»، وأنه رغم أن الرد «أقسى ظاهرياً»، إلا أنه «ليس جديداً». ولاحظ بوحبوط أن الغارات جاءت بعد سماح ليبرمان بإدخال أموال قطرية لدفع رواتب موظفي حكومة «حماس». وهذه هي سياسة العصا والجزرة التي في نظر بوحبوط لن تغير شيئاً في الواقع القائم.