حلب: "ذروة الرعب".. !

20162508085005
حجم الخط

«ذروة الرعب». كلمتان فقط، لكن مغزاهما لا يخضع للتحليل. وقد كانت هناك حاجة إلى نائب أمين عام الامم المتحدة للشؤون الانسانية، ستيفن اوبراين، من اجل وصف الوضع الحالي في المدينة السورية حلب.
ومع دخول المواجهة الدموية في سورية الى سنتها السادسة، يجد سكان المدينة المقسمة صعوبة في رؤية النهاية أو رؤية أي تحسن.
«هذه هي الازمة الكبرى في زماننا»، كما وصف اوبراين الوضع في المدينة، قبل أيام، فهذه المدينة يتم قصفها يوميا.
وحسب الامم المتحدة فان الحرب في حلب أبقت 275 ألف انسان في الاحياء الشرقية بدون طعام، ماء، كهرباء وأدوية مدة أكثر من شهر.
واضافة الى ذلك فان امكانية الوصول الى حوالى مليون ونصف المليون من السكان في المناطق الغربية «صعبة جدا».
«لا يوجد حليب في حلب، الحوانيت فارغة تقريبا، ورويدا رويدا يختفي الطعام. الوقود والتموين بشكل عام لا يوجدان ولا مجال للحديث عن الادوية»، هذا ما قاله عمر، وهو نشيط ميداني في مناطق المدينة الشرقية، لصحيفة «هآرتس». «هذا يزيد الصعوبة على السكان الذين بقوا». وحسب اقوال عمر، تحول الوضع غير المحتمل في الايام الثلاثة الماضية الى أكثر صعوبة.
القوات الحكومية، كما قال، وضعت على المهداف الطريق الوحيدة التي تؤدي إلى خارج المدينة. «قوات النظام تقوم بقصف أية سيارة أو قافلة تمر في الشارع»، كما قال، «في الوقت الذي يقصفون فيه الاحياء جواً».
إن من بقي في تلك الاحياء التي يتم قصفها هم أبناء الطبقة الاضعف من الناحية الاقتصادية والاجتماعية.
«هؤلاء الاشخاص ليس لهم مكان يذهبون اليه، ولا توجد لهم القدرة على الانتقال الى مكان آخر. لذلك، بقوا في منازلهم وهم يتلقون النار». وأضاف عمر: «نحن في وضع صعب جدا، والنظام ينتهج سياسة التجويع والحاق الضرر المتعمد من اجل كسر من بقي».
في الطرف الثاني من المدينة، في المنطقة التي يسيطر عليها نظام الاسد، الوضع افضل كثيرا، كما قال حسام، وهو أحد الناشطين المؤيدين للنظام. شيئا فشيئا، كما قال، تعود الحياة الى طبيعتها. «في الاسابيع الاخيرة قدمت الحكومة مساعدات انسانية وغذاء»، كما قال لـ «هآرتس»، «يمكنك أن تجد في الاسواق الاحتياجات الاساسية، وهناك توجه لتحسين البنية التحتية». حسام على قناعة بأن المعركة على المدينة التي تقع في شمال غربي الدولة حسمت لصالح قوات الاسد. «وما بقي هو عدة احياء يتحصن فيها المتمردون».
لكن مثلما هي الحال في مجالات اخرى، فان ما يظهر من غربي المدينة يبدو مختلفا من شرقها. في الوقت الذي يتحدث فيه مؤيدو النظام عن السيطرة على 65 في المئة من المدينة، فان رواية المتمردين متوازنة أكثر – 50 في المئة لكل طرف.
الامر الوحيد الذي يتفق عليه الطرفان هو روتين الحرب التي لا يعرف أحد متى ستنتهي.
لقد عبر اوبراين عن هذا الشعور بشكل جيد في أقواله حينما تحدث أمام مجلس الامن التابع للامم المتحدة، حيث أشار الى أنه لم ينجح أي وفد مساعدة في الوصول الى المناطق المحاصرة في حلب في هذا الشهر، وحث كل الاطراف المتقاتلة على الموافقة على وقف اطلاق النار الاسبوعي لمدة 48 ساعة، من اجل ادخال المساعدات للسكان الذين في أمس الحاجة اليها. «نحن أمام خطر الفوضى الشديدة التي لا مثيل لها في السنوات الخمسة الاخيرة في كل ما يتعلق بسفك الدماء والدمار في الحرب الاهلية السورية»، قال.
وتوجه اوبراين بحديثه الى اعضاء مجلس الامن المنقسمين بسبب الازمة السورية. «لديكم القوة من خلال القلم – جرة قلم بسيطة – من اجل السماح للناس بالحصول على الغذاء»، قال. وحسب اقواله فان الامم المتحدة قدمت في هذا الشهر طلبات من اجل تقديم المساعدات لمليون شخص محاصرين في المناطق التي يصعب الوصول اليها، لكن الحكومة السورية وافقت على أقل من نصفها ورفضت السماح بوصولها الى الاماكن التي يسيطر عليها المتمردون في شرقي حلب. «هذا سباق ضد الزمن»، أضاف. «الحرب مستمرة والتقارير المزعزعة حول قصف المستشفيات والمدارس تستمر في الوصول. وقد تم قطع الكهرباء والمياه متوفرة بصعوبة والحركة محدودة».
صحيح أن روسيا أيدت في نهاية الاسبوع وقف اطلاق النار، لكن الاطراف الاخرى المتقاتلة لم تتعهد بذلك.
نائبة سفير الولايات المتحدة في الامم المتحدة ميشيل سيسون، حثت موسكو، التي هي الحليفة المقربة للرئيس السوري بشار الاسد، على دعم التصريحات «بخطوات حقيقية تساعد على الوصول الآمن الى مدينة حلب».

مساعدة تحت النار
بالنسبة للحكومة السورية تعتبر قوات الانقاذ المدنية قوات ارهابية.
في الوقت الحالي، وداخل هذه الفوضى، تظهر مبادرات محلية تحاول تقديم المساعدات، حتى لو قليلة، لاولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة أو يناضلون من اجل ذلك. المنظمة التي برزت على خلفية أحداث الاونة الاخيرة هي «اصحاب الخوذات البيضاء»، وهي جهة تقوم بانقاذ الناجين في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون في دولة قامت الحرب بتقسيمها.
واحد من بين الـ 3 آلاف شخص الذين تجندوا من اجل هذا الهدف هو محمود فضل الله.
يقول فضل الله إن صاروخا قد أصاب أحد منازل حلب، قبل شهرين، ما جعل زوجين عالقين تحت الانقاض.
وقبل دخول فضل الله وزملائه الى المنزل المدمر اضطروا الى انتظار سقوط الاجزاء المدمرة وزوال الغبار. «صرخنا: نحن قوات الدفاع المدني، هل يسمعنا أحد؟»، وأضاف: «لقد تواجدا في الطابق الارضي، والسقف الذي سقطت زاوية منه هو الذي عمل على حمايتهما». 
مرت 30 دقيقة الى أن استطاع الطاقم الوصول الى الزوجين وانقاذهما، وقاموا باخراج اربع جثث مذلك، واحدة منها تمزقت الى اربعة اشلاء بسبب قوة الانفجار.
بغض النظر عن شدة الصور، كانت هذه مهمة اعتيادية اخرى لقوات الدفاع المدني السوري. «الناس يموتون ونحن نركض نحو الخطر»، قال فضل الله. قبل الحرب عمل فضل الله في البناء، ولكن في هذه الايام فان كل سوري لديه القدرة، فهو يعمل في الانقاذ. ومن بين أصحاب الخوذات البيضاء يمكن إيجاد طلاب، نجارين، محامين، وأطباء.
في الاسبوع الماضي فقط ثارت ضجة عالمية بسبب عملية انقاذ قاموا بها: صورة عمران دكنيش، الذي يبلغ الخامسة من عمره، يجلس وحده في سيارة الاسعاف مبللا ومغطى بالغبار والدماء، تحولت الى رمز لضحايا المعارك في حلب.
هناك كثيرون ممن يتابعون نشاط اصحاب الخوذات البيضاء، وهم يسمون بهذا الاسم بسبب وضع الخوذات البيضاء على رؤوسهم. وهم يقومون بالمهمة «الاخطر» في العالم كما تقول عنهم المنظمات المدنية السورية زالمنظمات الدولية التي تتابع نشاطهم.
ولكن هذه المنظمات ليست الوحيدة التي تراقب اصحاب الخوذات البيضاء تحت المجهر. الحكومة السورية ايضا تفتح عيونها. وعمليا، تقوم القوات الحكومية بقصف قوات الانقاذ التي تعمل على انقاذ الضحايا. «القصف المزدوج»، هكذا يسمون الطريقة التي يتم فيها القصف الجوي مرة تلو الاخرى للهدف ذاته. وبسبب هذه الطريقة قتل اثنان من طاقم فضل الله في حزيران.
لقد واجه فضل الله حدثا مشابها، الاسبوع الماضي. ففي الوقت الذي حاول فيه هو وطاقمه انقاذ أحد الاشخاص من تحت الانقاض، سقطت عليهم صلية نار اخرى. «لقد رأوا أننا وصلنا فبدأوا بقصفنا بالراجمات والطائرات»، قال فضل الله، «اختبأ الطاقم في أحد المنازل المدمرة. وخمسة من اعضاء الطاقم ومن ضمنهم فضل الله أصيبوا بالشظايا، وقُتل أحد اعضاء الطاقم الذي يدعى عمران هاره. قبل نحو عامين كان هاره في العناوين الدولية بعد انقاذه طفلا عمره عشرة ايام، كان عالقا مدة 16 ساعة بين الانقاض. والآن لا أحد استطاع مساعدته. ايضا الناجي الذي وصل الطاقم من اجله توفي بسبب القصف التالي».
حسب اقوال مركز المنظمة، رائد صالح، فان 134 شخصا من اصحاب الخوذات البيضاء قتلوا اثناء قيامهم بمهات الانقاذ التي انقذوا خلالها 60 ألف شخص. ولكن حسب رأي من يؤيدون النظام، يعتبر هؤلاء الاشخاص «ارهابيين». وهذا مفهوم واسع تستخدمه الحكومة السورية لوصف معارضي النظام المسلحين. وهي تتهم اصحاب الخوذات البيضاء بتقديم المساعدة لهم. يصعب منع اتهامات كهذه في الحرب السورية، حيث إنه خلال السنوات الخمس تم اتهام جميع الاطراف في الحرب بتنفيذ جرائم حرب. ويعمل أصحاب الخوذات البيضاء في مناطق مختلفة وهم على صلة دائمة مع السكان. بعض هذه المناطق تسيطر عليها منظمات المتمردون المشكوك فيها، ومنها «جبهة فتح الشام» التابعة لـ «القاعدة».
وكما هي الحال في مجالات اخرى ترتبط بالحرب، فان الموقف السائد لدى النظام السوري حول المنظمة، التي تعمل في 119 موقعا في أرجاء الدولة، غير متجانس بالضرورة مع الاصوات التي تُسمع في العالم. وقد أوصى معهد الشرق الاوسط في واشنطن بمنح هذه المنظمة جائزة نوبل للسلام للعام 2016. «إن منح وسام شرف للنشطاء الانسانيين الشجعان الذين في اغلبيتهم غير معروفين، يعبر عن القيم الحقيقية لجائزة نوبل للسلام»، كما قالت وندي تشمبرلاين، رئيسة المعهد.
حسب اقوال صالح، فان الفوز بجائزة نوبل «سيرفع المعنويات»، لكنه ليس الاولوية. «سواء فزنا أم لا، نحن بحاجة الى وضع حد لقتل المدنيين بوساطة القصف بدون تمييز في كل ارجاء الدولة».

الحياة عميقا تحت الأرض
في شرقي حلب يمزق القصف الشوارع الواحد تلو الآخر، وبين القتلى الكثيرون والمباني المدمرة هناك الاولاد الذين فقدوا آباءهم وهم يعانون من الصدمة على المدى البعيد. المحظوظون من بينهم يوجدون تحت الارض في المكان الذي فيه حياة. على عمق طابقين تحت الارض يوجد بيت الايتام «مميزون»، حيث ينام سكانه بشيء من الأمان، رغم أنهم يستيقظون وهم خائفون بسبب القصف الذي يدمر الشوارع فوقهم.
ويقوم بحراسة هؤلاء الاولاد الخمسين في الملجأ تحت الارضي، أسمر حلبي وزوجته التي ما زالت تعاني من اصابة نتيجة لقصف المدرسة قبل عامين.
تتراوح اعمار الأيتام بين 2 – 14 سنة. الآباء قتلوا أو اختفوا بطريقة فظيعة خلال سنوات الحرب. «لقد تأقلموا بشكل لافت مع هذه الحياة الفظيعة»، قال حلبي (50 سنة). «على سبيل المثال، كان الاولاد يخافون في السابق عند سماع صوت الطائرات، لكنهم اليوم يريدون الخروج لمشاهدة السماء ورؤية الطائرات أو المروحيات وهي تمر من فوق رؤوسهم».      
أصبح  كثير من الاولاد بلا مأوى، مثل عمر الذي يبلغ 12 سنة وأخته مفيدة التي تبلغ 13 سنة من عمرها، بعد أن قتل والدهما، واختفت أمهما التي عانت من انهيار عصبي، حيث اضطرا للنوم في بيت الدرج في المبنى الذي يسكن فيه عمهما، الذي أجبرهما على طلب الطعام والصدقة في المدينة، كما قال حلبي. الآن هما يشعران بالأمان، نسبيا على الأقل.  
لقد تم افتتاح الملجأ قبل سنة بسبب العدد الكبير من الاولاد الذين فقدوا كل شيء. وهو قادر على البقاء بصعوبة دون مساعدة. «أجرينا استطلاعا بخصوص الاولاد الذين فقدوا أحد الوالدين أو كليهما واكتشفنا، للأسف، أن العدد كبير جدا»، قال حلبي الذي كان تاجرا قبل الحرب وليس لديه أبناء.
الملجأ لم يكن من المفروض أن يكون تحت الارض.
لقد كان فوقها من قبل، وعلى مدى نصف سنة قام حلبي وطاقمه بترميم المبنى، حيث تحولت بعض الطوابق فيه الى غرف للنوم.
ولكن كل ذلك حدث قبل انضمام الطائرات الروسية الى القوات التي تقوم بقصف متمردي حلب.
بعد ذلك قرر القائمون على الملجأ عدم الاستمرار في هذا الوضع، فتم نقل الفرشات الى تحت الارض وايضا انتقل جزء كبير من النشاطات التعليمية والرياضية الى هناك كي ينجح الاطفال في النوم والاكل والتعليم بشيء من الأمان تحت الارض.
في الوقت الحالي، في ذلك المكان، يخضع 25 شخصا لإمرة حلبي، حراس، طباخون ومعلمون، يعلمون الرياضيات واللغة العربية والنسيج والقرآن. ويلعب الاخصائيون النفسيون دورا مهماً في الملجأ، وهم يعملون هناك بوظيفة كاملة. وهم مسؤولون عن منطقة كاملة لتقديم العلاج.
احدى المشاركات الدائمات في تلقي العلاج هي ياسمين التي تبلغ 8 سنوات من عمرها، حيث وجدها المتطوعون للملجأ في الشارع. وتبين أنها قد فقدت والديها. وعندما وصلت خافت من العتمة. والآن، كما يقول حلبي، بدأت تنمو وهي على رأس الصف.
«عندما يصل الاطفال تكون حالتهم صعبة بسبب ما مر عليهم، ولكن بعد بضعة اشهر يتحسن وضعهم»، «هدفنا هو الدفاع عنهم وتعليمهم من أجل نجاحهم مستقبلا. اغلبية الاطفال فقدوا والديهم في الحرب المتواصلة، وفقط 5 في المئة فقدوا أحد الوالدين، لكن ما بقوا على قيد الحياة يعانون من مشكلات نفسية شديدة، الامر الذي يمنعهم من رعاية أبنائهم».