مشكلة تونس الحالية أكبر بكثير من مجرد حكومة جديدة… و مع ذلك فهذه الحكومة هي بحد ذاتها مشكلة كذلك.
مشكلة تونس اليوم هي بالأساس البحث عن سبيل إلى إعادة الأمل إلى الناس في أن الثورة التي حصلت إنما هي لصالح البلد و مستقبل أفضل لأبنائه، وبالتالي تحفيز الجميع نحو المشاركة، كل من موقعه، بهمة و صدق لإخراج الوطن من وضع يلامس الإفلاس الاقتصادي بعدما تجلى الإفلاس السياسي.
مشكلة تونس اليوم هي أنها، وهي تقترب من الذكرى السادسة لرحيل بن علي، لم تعد سعيدة بذاك الرحيل كما كانت من قبل. الأدهى أن البعض بات يحنّ لعهده لاعتبارات شتى لا يخلو بعضها من وجاهة ما.
مشكلة تونس اليوم أنها كانت تظن أن باختيارها الباجي قايد السبسي وإبعادها للمنصف المرزوقي إنما اختارت رصانة الدولة بالإصلاحات المتدرجة على فورة الثورية التي تصحبها رعونة، فلم تظفر بالأولى وأضاعت الثانية.
مشكلة تونس اليوم أن الفساد، المتحالف أو المتداخل، مع التهريب و الإرهاب أصبح ينخر البلد بالكامل. تحول من ورم محصور في قطاعات وبارونات محددة إلى سرطان تفشى في الجسد كله. وبتقاطعه مع السياسة و السلطة إزدادت صعوبة الاستئصال والشفاء.
مشكلة تونس اليوم أن الناس، في مجموعها إلا من رحم ربك، لم تعد تعمل ودب في صفوفها التواكل و الكسل حتى لم يعد الصالح العام يهمها قليلا أو كثيرا. تفشت الروح الأنانية في الأفراد والقطاعات حتى أصبح همّ كل واحد تقريبا هو كيف يستطيع أن ينتزع من الدولة أي شيء. تحول المشهد إلى ما يشبه نهشٍ متوحشٍ في جسد منهك مثخن بالجراح.
مشكلة تونس اليوم هي أن التفاهة العامة، التي كرّسها وجسّدها إعلام مشبوه التمويل و الوجوه و التوجهات، صارت حائلا أمام إطلاق نقاش مجتمعي شامل حول أفضل السبل للخروج بالبلاد من مأزقها الحالي. و زاد الأمر سوءا أن بعض الوجوه السياسية التي كانت تحظى باحترام لا بأس به انكفأت الآن على نفسها، تحولت إلى موقع المتفرج تقريبا تنتظر حلول الكارثة لتقول للناس كم أخطأوا بإبعادهم عن الساحة.
مشكلة تونس اليوم هي أن الحزبين الأبرز في البلاد، «النهضة» و «النداء» لم يعودا رافعة للتغيير الديمقراطي و الإصلاح السياسي بل معيقا له و عبئا عليه. خطيئتهما الكبرى تحول زعيميهما «الشيخين» الباجي قايد السبسي و راشد الغنوشي من عنصر توازنٍ واستقرارٍ البلادُ في أمس الحاجة إليهما، إلى رجلين يبحثان عن الترضيات المتبادلة ليس أكثر. سكت الغنوشي عن تضخم دور رئاسة الجمهورية في مخالفة واضحة للدستور و عن تحول «النداء» إلى ملاذ آمن لكل بقايا النظام القديم وممارساته السيئة، مقابل قبول الباجي بــ «النهضة» لاعبا سياسيا لا غنى عنه يرفض شيطنته أو إقصاءه. تقدمت مثل هذه الحسابات و ما تخفيه من مصالح، بعضه قد يكون مريبا، عن أي شيء آخر له علاقة بالديمقراطية و إرساء نظام سياسي جديد يقطع مع ممارسات العقود الماضية.
مشكلة تونس اليوم أن أوضاع الفئات الفقيرة و المهمشة و مناطق الحرمان و البطالة ازدادت سوءا على سوء و لا شيء يلوح في الأفق لتغييرها. هؤلاء الذين أشعلوا فتيل الثورة قبل أن ينضم إليهم الآخرون يشعرون اليوم بمرارة شديدة، مرارة من يرى أن ثورته غـُــدرت، و أن «القادمين الجدد» ليسوا بأفضل ممن سبقوا، و أن الكراسي و المصالح و النهب ديدنهم جميعا، السابقون و اللاحقون. هذا الشعور مدمر فعلا، خاصة عندما تلتحق بالإحساس به طبقات متوسطة تآكلت قدرتها الشرائية بفعل الغلاء المتواصل في وقت تتردى فيه الخدمات العامة من نظافة و غيرها، و كذلك الخدمات الصحية التي طال الفساد حتى عياداتها الخاصة، كما تجلى ذلك في الفضائح الأخيرة.
من هنا، لا يبدو أن حكومة «الوحدة الوطنية»، التي سيبت مجلس النواب في منحها الثقة بعد غد الجمعة، ستكون الترياق لكل العلل السابقة و غيرها كثير، لأن لا حكومة قادرة أصلا على معالجتها طالما أن رعاة هذه الحكومة هم أصل المشكل و من الصعب جدا أن يصبحوا جزءا من الحل.
يزيد الأمر سوءا أن رئيس هذه الحكومة، على أهمية أن يكون شابا، لا يبدو من ذاك المعدن القادر، بحكم التجربة المحدودة، على أن يدخل في مواجهات حاسمة على كل هذه الجبهات. هو أشبه بهشام قنديل رئيس وزراء الرئيس المصري المنقلب عليه محمد مرسي الذي لم يحز ثقة و رضا أغلب المصريين و مع ذلك أصر عليه مرسي بعناد. و حتى على افتراض أنه قادر و يمتلك العزيمة اللازمة، فسيجد نفسه حتما مكبلا بتفاهمات «الشيـخين» و حساباتها القائمة حاليا، للأسف الشديد، على كنس الأوساخ تحت السجاد عوض تنظيف المكان. خسارة!!
٭ كاتب وإعلامي تونسي