أفهم أن تكذب إسرائيل في تبرير مزاعمها، لكني أستغرب أن يلجأ بعضنا إلى الكذب في دفاعهم عن التطبيع معها.
(1)
حين كتب أحد المثقفين المصريين من دعاة التطبيع قائلاً إنه يتعامل مع إسرائيل باعتبارها مجرد «كيان» في الإقليم٬ فإنه لم يكن يكذب فقط، لكنه كان يردد الحجة نفسها التي يروّج لها الصهاينة، وربما بالمصطلح نفسه الذي استخدموه. آية ذلك أن كتاب «إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان»٬ الذي أصدره في العام 2003 «مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا»٬ ذكر مؤلفه العميد المتقاعد موشيه فرجي ما نصه: من وجهة النظر الإسرائيلية فإن المنطقة العربية لا تشكل وحدة ثقافية وحضارية واحدة، لكنها خليط متنوّع من الثقافات والتعدّد اللغوي والديني والإثني. إذ عاش فيها العرب والفرس والترك والأرمن والإسرائيليون (لاحظ المغالطة) والأكراد والدروز والبهائيون والشيعة والسنة والآشوريون... إلخ. وهدف تعدد الأقليات والهويات هو تبرير شرعية الوجود الإسرائيلي، لأن المنطقة من خلال التوصيف السابق تصبح خليطاً من القوميات والشعوب واللغات، وتصور وجود وحدة بينها يغدو ضرباً من الخيال. والنتيجة المنطقية المترتبة على ذلك تعني أن يكون لكل قومية في المنطقة «كيانها» الخاص بها. وبذلك تكتسب إسرائيل شرعيتها باعتبارها إحدى الدول القومية التي تعيش في المنطقة.
هذا الذي عرضه العميد الإسرائيلي في بحثه انطلق منه الباحث المصري الذي يحمل شهادة الدكتوراه ويدرس العلوم السياسية في الجامعة، وإن لم يذكر الحيثيات التي أوردها الباحث الإسرائيلي. تتضاعف دهشتنا إذا لاحظنا أن أستاذ العلوم السياسية تجاهل في حماسه لفكرة التطبيع، أو لم يكن يعلم أن «الكيان» الذي سلّم به ليست له شرعية من وجهة نظر القانون الدولي. فوعد بلفور قرار سياسي، وتقسيم فلسطين مجرد اقتراح أسقطته الأمم المتحدة في آذار 1948. حين وجدت أن تنفيذه سيُغرق المنطقة في «بحر من الدماء»، كما قيل آنذاك نصاً. لذلك فإنها عيّنت الكونت برنادوت ليتولى وصاية الأمم المتحدة على فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني. أما اعتراف الدول بإسرائيل فهو عمل سياسي يمكن مراجعته ونقضه في أي وقت. وذلك كله لا يفرض نفسه على القانون الدولي ولا يُعَدّ جزءاً منه، وهو ما يمكن التثبت منه إذا ما عرض الأمر على محكمة العدل الدولية في لاهاي.
(2)
الأكذوبة الثانية التي يُروّج لها دعاة التطبيع، وشاركهم في ترديدها المتحدث باسم الخارجية المصرية، إن معاهدة السلام التي وقعت في العام 1979 استقرت وحققت السلام في المنطقة، وتستحق أن يبنى عليها بحيث تتوّج بالتطبيع. وعند التحقيق التاريخي النزيه سوف يكتشف الباحثون أنها كانت وبالاً على مصر والأمة العربية، وأنها في حقيقة الأمر رتبت نتيجتين، الأولى أن مصر استقالت من قيادتها للأمة العربية فصغرت بحيث ينطبق عليها القول إنها «تصالحت فتصاغرت». وباستقالتها انفردت إسرائيل بإدارة القضية والعبث بملفاتها، الأمر الذي أتاح لها أن تثبت أقدامها وتعربد، وتزداد شراهة في التوسع والاستيطان. صحيح أن مصر استردّت سيناء (إلا قليلاً) لكنها خسرت مكانتها وحين كبلتها معاهدة السلام، فإن إسرائيل أطلقت العنان لطموحاتها. فقصفت المفاعل النووي العراقي في العام 1981، ثم قامت بغزو لبنان العام 1982. وكان خروج مصر مقدّمة لتركيع الفلسطينيين في اتفاق أوسلو العام 93، ثم لتوريط الأردن في معاهدة «وادي عربة» التي عقدت العام 1994. فمصر نفضت يدها من القضية وجاءت بعدها الأردن. وحين وجد الفلسطينيون أن مصر تخلّت عنهم، فإنهم قبلوا بتوقيع «اتفاقية أوسلو» التي هي أسوأ من وعد بلفور، ذلك أنهم في أوسلو جلسوا مع الإسرائيليين لكي يقتسموا أرضهم معهم، وكانت تلك سابقة فريدة في التاريخ. إذ بدلاً من أن يستمر الواقع تحت الاحتلال في المقاومة لاستعادة أرضه، فإنه جلس مع المحتلين لكي يضفي شرعية على احتلاله. وللعلم فإنه ليس في «اتفاقية أوسلو» أي إشارة إلى القانون الدولي أو قرارات الأمم المتحدة أو حقوق الفلسطينيين.
لم يحلّ السلام في فلسطين، وأقيم مركز اتصال تابع للأمم المتحدة للتجسّس والتنصت على كل دول المنطقة مقره في داخل إسرائيل والقوات التابعة له في سيناء. أما إسرائيل التي أطمأنت إلى خروج مصر واعتزالها، فقد أطلقت يدها في الاستيطان والتهويد وابتلاع أرض الفلسطينيين. ففي العام 1979 كان عدد المستوطنين في حدود 20 ألفاً وقد وصل العدد إلى أكثر من نصف مليون في الوقت الراهن، ومنذ ذلك العام أقدمت إسرائيل على توسيع المستوطنات وبناء مستوطنات جديدة على ما سمّي بأملاك الدولة، حتى أصبحت 42 في المئة من أراضي الضفة الغربية تحت سيطرة المستوطنات. وفي الفترة من العام 79 وحتى الآن قامت إسرائيل بهدم 4473 من بيوت الفلسطينيين بذرائع عدة منها العقاب جراء المقاومة أو عدم وجود ترخيص بالبناء أو لأغراض عسكرية، وهذه أرقام سجلتها منظمة «بتسليم» الحقوقية في إسرائيل، إلى غير ذلك من القرائن التي أعدّتها المنظمة الحقوقية الإسرائيلية، وكلها تكذّب مقولة الاستقرار والفضائل التي ترتّبت على المعاهدة، وقيل إنها تنضمّ إلى مسوّغات للتطبيع ومبرراته.
(3)
الأكذوبة الثالثة ادعت أن إسرائيل أصبحت شريكاً في مكافحة الإرهاب مع دول الاعتدال العربي، سواء تمثل في ذلك في التصدّي لجماعات العنف في سيناء أو تمثل في العمل على حصار المشروع النووي الإيراني الذي يُقال إنه خطر. ولا أعرف كيف انطلت تلك الكذبة على عقول البعض، لسبب جوهري هو أن إسرائيل هي التي ابتدعت الإرهاب في المنطقة. ذلك أن العصابات الإسرائيلية هي أول من أرسل قنبلة في رسالة لتخويف الإنكليز في العام 1946، وفي العام ذاته قامت لأول مرة بخطف قاضٍ وجندي بريطاني، وأول قنبلة ألقيت على مدنيين عزل قام بها الإسرائيليون في العام 1948 لترويع فلسطينيين كانوا جالسين على مقهى في قرية «لفتا» غرب القدس. وتذكر المراجع التاريخية أنه في سنة 1948 وحده قام الإسرائيليون بـ80 مذبحة في فلسطين. ولا يُنسى أن العصابات الصهيونية استهدفت في شهر تموز العام 48 جمعاً من السكان احتموا بأحد المساجد (جامع دهش في اللد)، فأحدثت ثغرة في جدار المسجد وصوّبت مدافعها من خلالها. الأمر الذي أدى إلى قتل 200 فلسطيني ممن كانوا في داخله.
قائمة الإرهاب بكل مظاهره من خطف وقتل إلى تسميم مياه الشرب وهدم البيوت على سكانها، ذلك وغيره سبقت فيه إسرائيل الجميع، ثم خرجت علينا أخيراً لتزعم أنها تقف إلى جوار دول الاعتدال ضد الإرهاب. ويحدث ذلك بجرأة مشهودة، لأنه يتم في حين تمارس الإرهاب في الأرض المحتلة كل يوم تقريباً.
الأكذوبة الرابعة مفضوحة ولا تحتاج إلى تفنيد، ذلك أن الادعاء بأن إسرائيل تتفاوض مع القادة الفلسطينيين لتحقيق السلام بات سمجاً ولم يعُد يصدّقه أو يعوّل عليه الإسرائيليون أنفسهم، فالمفاوضات الجارية التي تتمّ في ظل التنسيق الأمني بين سلطة رام الله وبين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لم يعُد يراهن أحد على إمكانية توصلها إلى حل للقضية. وإذا أضفنا إلى ذلك أن إسرائيل تسيطر على 98 في المئة من الاقتصاد الفلسطيني، فإن ذلك يعني أن هدف المفاوضات هو استمرار الاحتلال والتمكين له وإضفاء الشرعية عليه بمضي الوقت. وكانت نتيجة ذلك أن تراجعت فكرة إقامة دولتين على أرض فلسطين، ورفضت فكرة الدولة الواحدة. وأصبحت الصيغة العملية المطروحة تتمثل في محاولة تحسين الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين في ظل الاحتلال. بمعنى أن يبقوا داخل القفص طول الوقت، مع استمرار محاولات تحسينه.
(4)
إذا سارت الأمور على النحو الذي يشتهيه المطبعون من سياسيين ومثقفين ومنافقين، فلن يكون حديثنا عن مصير الهنود الحمر افتراضاً متشائماً٬ لأن الذي جرى مع أولئك الهنود منذ بداية القرن السابع عشر وانتهى بمحو شعوبهم وحضارتهم وإبادة مجتمعاتهم وثقافتهم، يتكرر الآن في فلسطين بصورة شبه حرفية. وقد وثق الكاتب العربي السوري الأصل منير العكش قصة الهنود الحمر ومصيرهم الفاجع في ثلاثة مؤلفات هي: أميركا والإبادات الجماعية، وأميركا والإبادات الثقافية٬ والكتاب الثالث هو الذي يسلط الضوء على المصير الذي نتخوّف منه وعنوانه: دولة فلسطينية للهنود الحمر. وحين يقرؤه المرء بإمعان سيجد أنه يروي ما يحدث الآن في فلسطين المحتلة. منذ كان الصهاينة لا يمثلون أكثر من 6 في المئة من السكان٬ ولهم خمس مستوطنات في العام 1881 إلى أن ابتلعوا فلسطين كلها وصاروا يقدمون أنفسهم كقوة عظمى مهيبة ومحسودة في الشرق الأوسط. وحين خطر لي أن أدعو إلى تعميم الكتاب لكي يدرس في مراحل التعليم الإعدادي والثانوي بالعالم العربي٬ أحبطتني الأخبار التي نشرت عن تغيّر مناهج التعليم في مصر لتنشئة الأجيال الجديدة على الإعجاب بإسرائيل وليس تعريتها وفضح جريمتها التاريخية الفادحة.
ملأني كتاب منير العكش الأخير بالغمّ والاكتئاب حتى استحضرت ما كتبه ابن كثير في مؤلفه «البداية والنهاية» عن غزو التتار لمقرّ الخلافة الإسلامية في بغداد٬ الذي وصفه بأنه الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها٬ حتى قال بعد الذي رآه: يا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً. نسأل الله ألا يرينا يوم التطبيع ومصيبته الكبرى. لا نحن ولا مَن يأتون بعدنا من الأبناء والأحفاد