هناك حاجة لرصد الكثير جدا من التفاصيل لفهم ما يجري في الانتخابات البلدية الفلسطينية. ويشبه الأمر البحث في الصندوق الأسود للطائرات، مع فرق أنّ الطائرة لم تقع في الحالة الفلسطينية، وما تزال تحاول البدء بالتحليق. وأهم ما يجدر تتبعه في هذه الانتخابات، هو مدى وجود حركة سياسية ووطنية، تحيط بالانتخابات.
أحد الأسباب التي يجري بسببها متابعة أي انتخابات بلدية في العالم، هو رؤية موازين القوى بين الاتجاهات السياسية أو المجتمعية المختلفة؛ أي إنّه إذا كانت هناك أطر وانتماءات محددة للمرشحين، وهذه الانتماءات تقدم مؤشرا على وجهة الدولة أو المجتمع، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فإنّ الانتخابات تكتسب أهمية لدى الرأي العام وجمهور السياسيين، وإلا تعتبر الانتخابات شأنا محليا في المواقع التي تجرى فيها؛ تهم الأشخاص، وربما العائلات والأحياء، من دون بعد وطني عام جامع.
في الانتخابات البلدية الفلسطينية المتوقع أن تجرى في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، فإنّ هذه الانتخابات يمكن أن تحظى بأهمية لسببين سياسيين أساسيين. الأول، معنى هذه الانتخابات في مواجهة الاحتلال. والثاني، ما تعكسه من موازين قوى بين الفصائل السياسية الفلسطينية الأساسية.
على صعيد مواجهة الاحتلال، فإنّ الانتخابات البلدية في السبعينيات، كانت رافعة مهمة لإثبات قوة وقدرات منظمة التحرير الفلسطينية في مواجهة الخطط الاسرائيلية تكوين قيادات بديلة عبر الانتخابات. لذلك، إذا كانت المنظمة قاطعت الانتخابات في بداياتها مطلع السبعينيات، فإنّه عندما قررت خوضها (العام 1976)، وفاز المقربون منها، قام الإسرائيليون باغتيال وإبعاد هؤلاء، وأوقفت الانتخابات.
من هنا، فالانتخابات البلدية كانت جزءا من مشهد المواجهة مع الاسرائيليين. لكن بوجود السلطة الفلسطينية الآن، ووجود مجالس تشريعية، تختلف الوظيفة الوطنية والسياسية المتوقعة. فعلى سبيل المثال، عندما تصاعدت هجمات المستوطنين على القرى الفلسطينية، نهاية العام الماضي، كان تشكيل لجان "نواطير القرى" رادعاً مهماً لهؤلاء المستوطنين، ما يوضّح أهمية التنظيم المحلي على مستوى البلديات والقرى. ويمكن أن تكون مهمات مثل التصدي للاستيطان والمستوطنين، أحد مجالات العمل الوطني للبلديات.
مثل هذه المهمة، وهي مجرد مثال على كيفية لعب البلديات دورا وطنيا ممكنا، كان يمكن أن تكون جزءا من تنافس أو برامج فصائلية جامعة، بحملات موحدة لكل فصيل، فيها البعد السياسي الوطني، مع ترك الشق الخدماتي للمستوى المحلي في كل بلدية وقرية.
عمليا، لا يوجد لدى الفصائل الأساسية، بدءا من "فتح" أو "حماس" أو اليسار، أي برنامج متكامل للمواجهة المدنية اليومية مع الاحتلال، وفق رؤى واضحة وشاملة، وضمن قدر ما من المركزية. وبالتالي، طبيعي أن تفشل الفصائل في توظيف الانتخابات ضمن برنامج تحرري.
رغم كل ما مضى، فإن إجراء الانتخابات أمر إيجابي، لأنه تجديد مجتمعي مهم، وزيادة للاهتمام بالمجال العام. والواقع أنّ بعض الاحتجاجات بأن أي انتخابات أو عمل انتخابي يجب أن يأتي بعد توافق بين الفصيلين "فتح" و"حماس"، يحاول تقزيم المجتمع الفلسطيني ورهنه للفصيلين، مع تناسي الشرائح التي تريد الانخراط في العمل العام، ولا تنتمي للفصيلين، أو لا تريد انتظارهما (حتى وإن انتمت لواحد منها). وعملياً، فإنّ الانتخابات البلدية كشفت ضعف الماكينة السياسية للفصيلين، وأنّه لا يمكن لأي منهما أن يقدم نفسه بشكل متماسك وجامع، فاختبأ كلاهما خلف مقولات التحالف أو الدعم للكفاءات والطاقات المهنية، أو التعاون مع العائلات والأهالي، ولم تعد الانتخابات وسيلة أيضاً لتبين قوة كل منهما شعبياً.
يمكن لهذه الانتخابات إذا جرت كما هو مخطط، أن تكون لها نتائج إيجابية، منها -كما سلف- التجديد المجتمعي، وتأكيد حيوية المجتمع الفلسطيني. لكن الأهم أنه يجدر بهذه الانتخابات أن تنبه الفصائل إلى أنّها كي تؤدي وظيفتها الوطنية، وتحظى بالتالي بالتأييد الشعبي، فإنّ عليها النظر في أطروحاتها وبرامجها، لتقدم برامج واضحة، كلمة السر فيها "كيف يمكن أن يصبح كل شيء في الحياة اليومية جزءا من خطط الاستقلال والتحرر"، وأن تكون هناك، بالتالي، برامج سياسية ووطنية تطرح على مستوى الوطن، وتتبعها كتل في كل موقع، تطرحها بصفتها برنامجها الانتخابي، بجانب الشق الخدماتي المحلي، بدل الانحناء طلبا لرضى القوى العشائرية والتقليدية، ورجال أعمال وتجار، أصبحوا أكثر قوة وشعبية من الفصائل.