الفوضى الخلاقة: تفكيك الدول وإنهاك الإقليم!

رجب أبو سرية
حجم الخط

في كل مرة، نقوم بها بمراجعة أو متابعة المشهد الإقليمي، ومستوى تدخل الغرب في أحداثه، خاصة الولايات المتحدة، ينتصب أمام أعيننا التساؤل، حول التدخل العسكري الصريح للقوات الأميركية مرتين في العراق، لدرجة احتلال بغداد، كذلك التدخل العسكري ضمن حلف الناتو في ليبيا، والإصرار على الحسم العسكري، باحتلال بغداد وإسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين خلال ثلاثة أسابيع، وإسقاط نظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، ومن ثم الانسحاب إلى المنطقة الخضراء داخل بغداد، ومن ليبيا، وهذا الأمر لم تفعله لا أميركا ولا الناتو، لا في اليمن ولا في سورية، أما مصر وتونس _ أي الدول التي شهدت الانقلابات السياسية المدعومة من الغرب _ فلم تحتاجا إلى التدخل العسكري لإسقاط نظامي مبارك وبن علي.
أما الجواب فإنه يتناول الفروقات بين كل من العراق وليبيا من جهة، كونهما بلدين نفطيين، وبين اليمن وسورية، ورغم أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين يتدخلون عسكرياً في سورية منذ وقت، إلا أن تدخلهم، فضلاً عن أنه ليس موجهاً أو ليس ضد نظام بشار الأسد، بل ضد صنيعتهم "داعش"، فهو غير حاسم للحرب الدائرة هناك منذ أكثر من خمس سنين، ليس لأن هناك قوى إقليمية ودولية "توازن" التدخل الغربي، ولكن لأن واشنطن نفسها تعلن أن الحرب ضد "داعش" تحتاج إلى عدة سنين، وكأنها تحارب قوة دولية عظمى، كذلك فإن التدخل العسكري الغربي في سورية يقتصر على الجو، ولم يغامر الغرب، بالتدخل البري، حتى لا تسقط من بين صفوفه ضحايا بشرية.
التدخل البري تركه الغرب لعناصر "جهادية" من كل أنحاء العالم، إضافة إلى ما تم تجميعه من ضباط وجنود، ما سمي بالجيش السوري الحر، أو أفراد الشعب السوري الحانق على نظام مستبد رابض على صدره وأكتافه منذ أكثر من خمس وأربعين سنة.
بالنظر إلى أن لسورية حدوداً مع دول بعضها حليف للنظام _ إيران وحزب الله اللبناني، كذلك حكومة العراق الشيعية _ وبعضها مناهض للنظام وحليف للأغلبية الشعبية السنية _ تركيا والأردن _ فإن التدخل العسكري الخارجي، أخذ شكله على الجانبين، من خلال تدخل عسكري صريح من قبل حلفاء النظام، حيث إيران نفسها تؤكد وجود آلاف من عناصر الحرس الثوري يقاتلون إلى جانب قوات بشار الأسد، وكذلك حزب الله دفع بجل قواته إلى ساحة الحرب لجانب النظام.
أما حلفاء المعارضة، فإنهم اقتصروا على تشجيع وحتى تجنيد المنشقين من جيش النظام، والمتطوعين للحرب ضده، من أفراد الشعب، كذلك تدفق آلاف المتطوعين من الجهاديين في صفوف النصرة و"داعش" وغيرهما من كل أنحاء العالم.
المهم في الأمر، أن مخطط "الفوضى الخلاقة" ذا الأصول الأميركية، والذي منشؤه وصاحب الامتياز فيه وزيرة الخارجية السابقة كوندليزا رايس، والذي بدأ تنفيذه بإطلاق ما سمي بالربيع العربي، بقدر ما يهدف إلى تفكيك الدول القطرية المركزية في العالم العربي "العراق، سورية، مصر"، خاصة أن هذا المثلث _ مثلث القوة القومية العربية _ شكل على مر العقود الماضية، القوة المناوئة للغرب، فإنه يهدف أيضاً إلى إنهاك وإشغال الدول المركزية الأخرى، أي الدول التي لم تكن مناوئة للغرب، والتي هي محكومة بأنظمة حكم تقليدية ومحافظة، طالما كانت صديقة للغرب.
فبعد أن أشركت واشنطن كل دول الخليج ومعهم سورية ومصر في "حفر الباطن" عام 1991، فإنها في سورية، دفعت بدول الخليج الغنية، خاصة قطر والسعودية وإلى حد ما الإمارات، للتورط في تلك الحرب، التي ليس لإسرائيل ولا لأميركا مصلحة بحسمها سريعاً، قبل أن يتم تدمير سورية وإنهاك الدول العربية وحتى تركيا وإيران، فالهدف ليس إسقاط النظام، وأميركا وإسرائيل لا تسعيان لإشاعة الديمقراطية في البلاد العربية، لأن من شأنها تحصين وتقوية المجتمع العربي، بل تسعيان لتدميره.
ها هي الدول المركزية الأخرى، التي لا تفكر _ على الأقل في المدى المنظور _ واشنطن بفتحها داخلياً، وإسقاط أنظمتها وتفكيكها، مثل السعودية، تركيا، وإيران، تنخرط في حربي سورية واليمن، ليس فقط من خلال صرف مليارات الدولارات على شراء الأسلحة الأميركية وحسب، ولكن من خلال المشاركة بالحرب البرية.
السعودية والإمارات، انخرطتا في حرب ضروس باليمن، لم تحسم بعد مرور نحو عام ونصف، حتى الآن، ما يعني أن أعواماً من الحرب في انتظار السعودية باليمن، أما قطر، فقد خسرت الكثير من المال والنفوذ السياسي في المنطقة بعد رهانها الخاسر على الإخوان المسلمين، خاصة في مصر، ثم هناك إيران التي انشغلت في كل من العراق وسورية، فيما لم يتم حسم الأمور أو تحقيق الاستقرار لا في العراق، رغم مرور أكثر من 13 سنة على إسقاط صدام حسين، ولا في سورية، رغم مرور أكثر من 5 سنوات على الحرب.
بقيت تركيا، التي تجد نفسها، تتورط باطراد في سورية، بعد أن فتحت أبوابها لسنة العراق وسورية للجوء إليها، فهي لم تحتمل أن تجد نفسها بين "حانا الأميركان، ومانا الروس" لتضيع لحاها، فالروس تدخلوا لمنع سقوط بشار الأسد، والأميركان تدخلوا لحماية الأكراد، وتوسيع رقعة حكمهم الذاتي من العراق إلى سورية، لذا فإن التدخل البري التركي بعملية درع الفرات، بدءاً من جرابلس لمنع سيطرة الأكراد على شريط الحدود معها، دفع بالدولة الإقليمية للانخراط في مخطط الإنهاك إياه، فيما تبقى إسرائيل وحدها بمنأى عن كل هذا!