كثير من الفلسطينيين _ الآن _ أي بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود، على معارك داخلية، خاضها القائد الراحل ياسر عرفات، في شمال لبنان وغيرها، دفاعا عن القرار الفلسطيني المستقل، لا يدركون معنى القرار المستقل، وذلك يتضمن فصائل، وحتى قيادات هنا وهناك، فمن لم يشهد أو يعاصر تلك المرحلة، لا يدرك معنى ما ينتاب القيادة الفلسطينية الحالية، التي ورثت إرث وسياسة أبو عمار، وأخلصت له ولها، من حساسية، وهي ترى فصائل ذات وزن وتأثير، تفقد بوصلة عرفات التي كانت تؤشر إلى فلسطين، عبر ما وصفته وصاغته بالقرار المستقل.
نشأت الوطنية الفلسطينية أواسط عقد ستينيات القرن الماضي، بعد انتظار دام نحو عقدين، للمخلّص القومي العربي، وحين انطلق مارد الوطنية الفلسطينية في معركة الكرامة 68، وجد الفلسطينيون أنفسهم في «حقل ألغام سياسي « بين محاور إقليمية، حتى في الإطار العربي، وبالطبع بين محورين كونيين، لذا فقد ابتكر ياسر عرفات سياسة القرار المستقل، حتى يضمن صداقة الجميع، وان لا تذهب فلسطين ضحية الصراعات الإقليمية بين الأخوة الأعداء، قبل الأعداء / الأعداء .
ليس من اجل ضمان اصطفاف عربي وإسلامي وعدم انحياز وما إلى ذلك إلى جانب القضية الفلسطينية وحسب، فالشاطر في السياسة لا ينتابه الوهم، بمحاولة كسب العدو صديقا مثلا، فقد كان الفلسطينيون، يعرفون من هم حلفاؤهم ومن هم أعداؤهم، كونيا وإقليميا على كل حال، لكن الأهم كان بالنسبة لهم، أن فقدان القرار المستقل بيد الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، سيعني عدم تحقق المرادف السياسي للقرار المستقل، وهو الاستقلال الوطني، فحين تفقد القدرة على اتخاذ قرارك بنفسك، تقر عمليا وفعليا بعدم أهليتك لنيل الاستقلال.
هذا ما أخذته م ت ف بقيادة فتح / ياسر عرفات، على سورية حافظ الأسد، ومن تحالف معها ضد أبناء وطنه، من قيادة عامة، ومنشقي فتح، بحربهم التي أرادوا بها استكمال حرب شارون عام 82، بإخراج عرفات من شمال لبنان ( طرابلس )، بعد أن أخرجه شارون من بيروت !
سرعان ما تبين بأن عرفات كان على صواب، وكان حلفاء نظام الأسد على خطأ، وكان يمكن أن يكون مصير فلسطين، أو ما تبقى منها تحت الاحتلال، الضفة والقدس وغزة، مثل مصير الجولان، وتكرر الأمر هذه الأيام مع تجربة حماس السياسية، التي ما زالت تناكف فتح وقيادة م ت ف بحجة أنها صاحبة برنامج مقاومة، فتنقلت ما بين دمشق والدوحة وأنقرة، ورضيت أن تكون تحت عباءة الغريب أو حتى الأخ، ولا ترضى أن تكون تحت عباءة الأخ / الشقيق أو أن تكون ضمن محور إقليمي قومي أو عقائدي بدل أن تكون ضمن جبهة وطنية متحدة تقارع الاحتلال من أجل تحرر الفلسطينيين واستقلال فلسطين. فكل الاقتراحات والمحاولات التي تقوم بها الدوحة من اجل توفير رواتب موظفي حماس بغزة، لم تتجاوز الخط الإسرائيلي، الذي يرفض دفع رواتب موظفي الأمن، أي انه لم يتجاوز ما كان بإمكان حكومة التوافق والسلطة الفلسطينية أن تحققه، كذلك فان كل محاولات تركيا من أجل كسر الحصار عن قطاع غزة، لم تفض إلا إلى اقتراحات بممر مائي أو ميناء قبالة شواطئ غزة، يكرس الإدارة الذاتية الفلسطينية / الحمساوية، تحت مظلة أو سيادة إسرائيلية أو تركية ويقترب من مقترح قديم لبنيامين نتنياهو حول حل على طريقة أندورا، أي سيادة خارجية مزدوجة (إسرائيلية / تركية أو إسرائيلية / مصرية) لإقليم غزة !
الآن، ولأن محور الاعتدال العربي، في مأزق سياسي إقليمي يتفاقم، فهو يفقد السيطرة أو النفوذ على العديد من الدول العربية التي باتت عمليا خارج تأثير الجامعة العربية، من العراق لسورية إلى لبنان، كذلك هذا المحور منهمك في معارك ميدانية تمتد من سورية والعراق إلى اليمن مرورا بسيناء، وهو يواجه عدوا شيعيا، وفي نفس الوقت لا يمكنه أن يتحالف مع تركيا التي تريد زعامة هذا المحور، لذا لم يجد محور _ السعودية، مصر، الإمارات، والأردن _ سوى إسرائيل، من أجل صد أطماع إيران وتركيا معا، في البلاد العربية، فإيران ومنذ سنوات طويلة عينها على الخليج الذي تعتبره فارسيا، فيما تركيا تريد مبادلة المياه بالنفط.
مدخل التحالف مع إسرائيل، هو البوابة الفلسطينية، وحيث أن إسرائيل، لا ترغب في مفاوضة الفلسطينيين، بشكل يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية صريحة ومتصلة وموحدة، فان إسرائيل تفضل الحل الإقليمي، وهذا يمكن التوصل إليه مع هذا المحور العربي، بتحويل الرباعي العربي إلى « وصي على « القاصر « الفلسطيني، خاصة وان هذا الرباعي يبدي الاستعداد الواضح للتنازل عن سقف م ت ف وبرنامجها المرحلي من اجل أن يخرج هو من مأزقه الإقليمي .
بدل أن يعرض الرباعي العربي خطته للتحرك على الجامعة العربية كما كان يفعل من قبل، بدأ تحركه أولا من داخل الملعب الفلسطيني، وسمح لنفسه بأن يتدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي، حيث لم يتعامل مع عنوانه السيادي / الرسمي، بل تعامل معه كأطراف، هناك خيط رفيع بين التوسط، ومحاولة فرض الرؤية، ونحن هنا لا نتساءل إن كان أي من الأشقاء يقبل أن يتدخل أحد في شؤونه بالمثل، وهناك من يحتاج مصالحة داخلية بين نظامه ومعارضيه الذين يقاتلونه حتى بالسلاح، بل نقول بان الخيط الرفيع حين يختفي يجعل من الشيء نقيضه، وقد يجعل من التدخل بدافع الخير وإصلاح ذات البين، شرا، لا يفرض أحدا على احد وحسب، بل قد يؤدي إلى إضعاف الرأس الفلسطيني حتى يهبط بسقفه، لفتح الباب الفلسطيني أمام « تطبيع عربي هابط مع إسرائيل «، أو إلى تقصير الرقبة الفلسطينية حتى تصبح على مستوى رقبة «مدلدلة» أمام إسرائيل.