ديمقراطية على مضض

د. عبد المجيد سويلم
حجم الخط

السؤال حول العلاقة العضوية المفترضة بين الديمقراطية كمنظومة متكاملة للحياة والعلاقات المجتمعية بما في ذلك علاقة الدولة بالمجتمع وبين الثقافة الديمقراطية هو سؤال ملتبس في حالة المجتمعات العربية، وربما الكثير من المجتمعات الشرقية ومجتمعات البلدان النامية بشكل عام.
وتكاد تكون معظم الفوارق بين المجتمعات المشار إليها فوارق في الدرجة وليس في النوع باستثناءات ما زالت قيد الاختبار في بعض بلدان أميركا اللاتينية، وفي بعض بعض بلدان «النمور» الآسيوية، وقلة قليلة من بعض البلدان الافريقية.
ومن بين بلدان «الاختبار» روسيا وتركيا ومصر، في حين يتحدث الكثير من المختصين عن رُسُوّ الديمقراطية في الهند بصورة تقترب من النماذج الغربية على الرغم من كل مشكلات التنمية فيها. ويرى هؤلاء أن الديمقراطية قد «تمكّنت» من بلدان أوروبا الشرقية بعد أن تم إلحاقها بالاتحاد الأوروبي وتحويلها إلى «حدائق» خلفية واقتصاديات هامشية في دورة العجلة الاقتصادية العالمية.
وعلى ما يبدو فإن كل ديمقراطية لم تنشأ جرّاء ثورة برجوازية ديمقراطية في مرحلة المدّ البرجوازي ضد الإقطاع وضد كل علاقات ما قبل الرأسمالية كان لها أثمان اقتصادية واجتماعية باهظة على وجه العموم، إلاّ أن الثمن الاقتصادي والاجتماعي «للديمقراطية» في ظل سيطرة «الليبرالية الجديدة» بتجلياتها المختلفة هو ثمن كبير وأكبر بكثير مما كان عليه قبل عدة عقود فقط.
أي أن ثمة مقايضة تاريخية يفترض أن تتم ما بين أشكال ديمقراطية معينة على المستوى السياسي وما بين الأعباء الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية.
المشكلة والمفارقة المضحكة والمبكية في آن أن «العرب» قد دفعوا ذلك الثمن الباهظ على المستوى الاقتصادي والاجتماعي ولم يحصلوا على الديمقراطية السياسية المقابلة.
لقد تحولت الديمقراطية السياسية في معظم البلدان العربية إلى شكلانية بالكامل أعيد من خلالها إنتاج أنماط وآليات تتنافى وتتناقض ليس فقط مع جوهر الديمقراطية كنهج وأسلوب للعلاقات المجتمعية وإنما مع أبسط أشكال الديمقراطية بداهةً.
ويبدو التحول السياسي نحو تلك الأشكال البدهية للديمقراطية وليس جوهرها عسيراً ومتعثّراً وتحول إلى هدفٍ أسمى وغاية يكاد يصعب أو يستحيل الوصول إليها بكل ما ينطوي عليه الأمر والواقع من غرابة على هذا الصعيد.
الجوهري في كل هذا الواقع المؤلم هو غياب الثقافة الديمقراطية التي نعرف جيداً ضرورتها الحيوية لكي تستقيم القيمة الديمقراطية من خلالها وعَبرها وبوساطتها وليس بأي وساطة أخرى.
الديمقراطية الفلسطينية ليست استثناءً كبيراً على هذا الصعيد، والاحتلال لم يحل دون اندراج الواقع الفلسطيني في الاطار العربي العام لواقع الديمقراطية.
قبل مرحلة (ديمقراطية) غابة البنادق كان التحالف الوطني في اطار المنظمة وفي الاطار العام، أيضاً، يتميز بحالة أرقى من الحالة «الديمقراطية» العربية على الرغم من وجود الحزب القائد (وكانت فتح تمثل حالة هذا الحزب)، وكانت الحركة نفسها تمثل حالة تحالف وطني تعددي منفتح ومتنوّر.
لم تأخذ فتح بالمنهاج الجزائري في الادماج القسري للآخرين ولكنها أخذت عن الجزائريين ضرورة استقلال القرار الوطني بقدر ما هو مُتاح.
تعايشت الفصائل في اطار المنظمة وكانت الديمقراطية الفلسطينية حالة فريدة مصحوبة بقدر ما من الثقافة الديمقراطية، لكن الشرط السياسي العربي والدولي والإسرائيلي بعد أوسلو وأد عنصر الأصالة في الديمقراطية الفلسطينية الناشئة، وتحوّلت الحالة الديمقراطية الفلسطينية إلى حالة مشروطة ومقيّدة ومحكومة بموازين قوى لم تكن تضغط على العامل الذاتي، كما أصبحت الأمور بعد قيام السلطة الوطنية، وبعد أن أصبح اوسلو هو سقف للعلاقات الوطنية كما هو سقف للعلاقات الفلسطينية الإسرائيلية والعربية والدولية.
تحولت الديمقراطية الفلسطينية خلال العقدين الأخيرين من حالة أصالة ناشئة إلى ديمقراطية على مضض.
الديمقراطية داخل حركة فتح هي على مضض، وداخل المنظمة هي على مضض، وفي اطار الاتحادات الشعبية هي على مضض وحتى داخل صفوف القوى الديمقراطية هي حالة ديمقراطية على مضض...!!
انقلاب حركة حماس على الشرعية الوطنية كان انقلاباً على ما كان قد تبقّى من الثقافة الديمقراطية في مجتمعنا، وقد «استطاعت» حركة حماس (يا للشرف العظيم!!) أن تحول حالة التوافق الوطني على التعايش إلى حالة فرض الذات وإقصاء الآخر كجزء من الواقع السياسي.
في ذلك الوقت بالذات وليس في أي وقت سابق على ذلك كتب محمود درويش خاطرته الشعرية النثرية الرائعة، «نحن الآن غيرنا».
نعم نحن الآن غيرنا، لم نعد كما كنّا، ولم تعد الديمقراطية هي حصننا وحصاننا بعد أن أطاح الإسلام السياسي بالثقافة الديمقراطية ومرّغها في التراب. لكننا بالمقابل لم نتمكن من بناء النموذج الديمقراطي المقابل والمناوئ إلى درجة لم تعد الفوارق بيننا وبينهم فوارق مُقنعة أو كافية لكي ينهض الشعب للدفاع عن مشروعه الوطني ومشروعه الديمقراطي الذي طالما حلم أنه واحة خضراء في هذه الصحراء العربية.