لنتصور تلك المهزلة .. أن يشكو اللص من السرقة .. أو يشكو الفاسد من غياب الأخلاق حينها من الطبيعي أن نشهد هذا المستوى من انقلاب المعايير حد الصدمة .. كيف يمكن تفسير شكوى رئيس وزراء دولة إسرائيل التي قامت بأكبر عملية تطهير عرقي ضد الفلسطينيين أن يشكو الفلسطينيين لأنهم يريدون القيام بهذه الجريمة، وعلينا أن نصدق أن إسرائيل التي زرعت كل هذه المستوطنات وما زالت لم تكن تعرف ماذا تريد، والآن تصرخ خوفاً من المساس بهم...!
«المستوطنون لم يستولوا على أراضي غيرهم، ومن حقهم أن يعيشوا بسلام «هكذا تريد إسرائيل أن توصل الرسالة .. هؤلاء المستوطنون الذين تحولوا إلى ألغام متفجرة في الضفة الغربية وشكلوا أفضل وصفة لإدامة الصراع وأكبر معرقل لتسوية بين الطرفين يسرقون ما تبقى من الأرض الفلسطينية، تحولوا إلى ضحايا ينبغي التضامن معهم خوفاً من « ترانسفير عنصري» يريد الفلسطينيون ممارسته بحقهم ...يا لهذا الظلم.
فيما قاله بنيامين نتنياهو رداً على الرئيس الفلسطيني ما يؤشر لموقع الاستيطان في الفكر الاسرائيلي الذي علينا أن نفهمه ونفهم أن كل المناورات الإسرائيلية خلال العقود الماضية والحديث عن حل الدولتين مجرد خداع ووهم انتهى إلى هذه الحقيقة التي كانت تتحقق أمامنا من قبل كل حكومات إسرائيل يسار ووسط ويمين، لم نصدق وبقينا نخدع أنفسنا معتقدين أن المفاوضات مع تلك الحكومات قد تثنيها عن برنامجها القومي، لكن العقود الماضية كشفت أن المشروع الاستيطاني هو مركز الإجماع الصهيوني وواحد من أعمدة السياسة الرسمية في إسرائيل.
والد نتنياهو كان «بروفسوراً» في التاريخ وكان صديقاً لمؤسس الفكر اليميني جابوتنسكي إن لم يشارك في عملية تطهير الفلسطينيين عام 48 لأنه كان موجوداً في فلسطين، بالتأكيد فإنه كمؤرخ كان يعرف تماماً ما الذي حصل، بل كان أحد دعاة الطرد حتى مات قبل سنوات قليلة تاركاً توجهاته السياسية بما يشبه الوصية لابنه، وظل يقول إن هذه الأرض لا تتسع لدولتين. يعرف نتنياهو الذي كان صغيراً عندما حصلت عملية الطرد الكبرى للفلسطينيين ما حصل لأنها جزء من ذكريات الأب التي رواها أمام العائلة.
في كتابه «الترانسفير» روى إسرائيل شاحاك الذي كان رئيس منظمة حقوق الإنسان في إسرائيل ما يفضح الرواية الإسرائيلية حتى قبل حدوث الجريمة عندما نقل على لسان من سمي «ضمير الحركة الصهيونية « بيرل كانسلتون» في أحد مؤتمراتها في فلسطين عام 44 عندما وقف كانستلتون في وسط المؤتمر الذي كان يضع خطط طرد الفلسطينيين حينها إلى العراق، مطالباً بأن يكون الترحيل بباصات آمنة تستطيع حمايتهم من حرارة شمس الصحراء حتى لا يموتوا من الحر.
أما الضمير الحقيقي الذي كرهته المؤسسة الرسمية في إسرائيل البروفسور في الكيمياء يشعياهو ليبوفتش والذي رفض رابين حضور حفل تسليمه الجائزة كما عادة رؤساء الوزارات عام 93 كان قد اشتق مصطلح «يودونازيين» محاولاً إعطاء وصف لما حصل من نكبة للفلسطينيين على يد اليهود وتشبيهه للنكبة الفلسطينية بالهولوكوست الذي حصل لليهود على يد النازيين .. لقد ظل ليبوفوتش منبوذاً حتى وفاته، لأنه حاول دعوة المثقفين اليهود إلى رفض السياسة الرسمية وتعريتها ومهاجمتها حتى.
هل فعلا يصدق نتنياهو ما يقول أم تلك رسالة صادمة للعالم للكف عن المطالبة بوقف الاستيطان؟ أغلب الظن أن نتنياهو يصدق ذلك، وإن كان يريد القول للمستوطنين وهم الاحتياط الرئيس لقوته الانتخابية وضمان مستقبلة السياسي بعد ان تزايدت شبهات الفساد ضده، ولكن ليست هذه هي المرة الأولى التي يذهب فيها نتنياهو نفسه باتجاه هذا الفهم العنصري للعرب وكأن التطهير بحقهم لصالح اليهود ليس جريمة بل الجريمة عندما يتم طرد مرتكبها من مكان الجريمة.
عندما تسلم نتنياهو لأول مرة رئاسة الحكومة في إسرائيل سرب للصحافة الإسرائيلية حينها تقريراً في غاية الخطورة يعتبر أن الفلسطينيين في إسرائيل يشكلون خطراً أمنياً على الدولة، حدثت حينها موجة من ردود الفعل ثم اختفت، أما الفضيحة الأبرز فكانت قبل عام ونصف العام في ذروة الانتخابات الماضية يوم السابع عشر من آذار العام الماضي، حينما شعر للحظة بتهديد على حياته السياسية، وفي ذروة الضغط كشف عن حقيقته عندما طالب اليهود بالخروج للتصويت لأن «العرب يصوتون بكثافة» و»حتى لا يسيطروا على الدولة» تلك الفضيحة التي جعلت حليفا مثل الولايات المتحدة يخجل من هذا المستوى من العنصرية التي يتحدث بها رئيس وزراء خمس سكان دولته من العرب.
ربع قرن ونحن نتفاوض بموازاة التمدد الاستيطاني، والأخطر أن تنشر وزارة الخارجية في إسرائيل قبل سنوات وثيقة تعتبر أن لليهود حقوقاً تاريخية في الضفة الغربية تقتضي التفاوض على الضفة نفسها باعتبارها أرضاً متنازعاً عليها... ربع قرن من الخداع الإسرائيلي لينتهي بأحقية المستوطنين بالسكن، ومن يتحدث حتى عن تجميد الاستيطان فإنه يطالب بتطهير عرقي. وأمام هذا التاريخ الطويل من محاولات التسوية الفاشلة واتضاح النوايا الإسرائيلية بهذا الشكل الذي بعد أن أسدل الستار على حل الدولتين ها هو يتحدث عن دولة المستوطنين في الضفة، ماذا يحمل برنامجنا الوطني لمواجهة هذا المستوى من الخطر المدجج بالقوة.
الحقيقة لا أحد يعرف ماذا لدينا، ولا أحد يعرف إن كان لدينا برنامج أصلاً للمواجهة أم لا، ولكن جميعنا يعرف أن برامج المواجهات ضد بعضنا البعض طافحة بالتفاصيل الانقسامية والكراهية التي أطاحت بنا جميعاً وأعطت للمشروع هذا القدر من النجاح، إلى الحد الذي يصبح فيه المستوطنون أصحاب الحق، ويصبح الفلسطيني هو الظالم والمعتدي .. لم يستوقفنا كثيراً تصريح نتنياهو لأننا مشغولون بصراعاتنا، لكنه استوقف الأمين العام للأمم المتحدة .. أية مأساة تلك؟
التطهير العرقي للفلسطينيين:الوقائع والرد
29 سبتمبر 2023