"في تاريخ المجازر؛ يتكلم الموت أولاً ثم يتكلم القتيل، ثم يتكلم القاتل".
د. بيان نويهض الحوت، في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا
بعد أن تكلَّم الموت، وتكلم العديد من القتلى؛ تكلمت "عزبا حسن خضر"، وقدَّمت شهادتها، بعد ثلاثين عاماً من وقوع المجزرة، - ضمن مشروع توثيق المشاركة السياسية للمرأة الفلسطينية منذ منتصف الستينيات حتى العام 1982-، ورحلت في الثاني من آب، العام 2016.
رحلت مناضلة فلسطينية صلبة، من شهود مذبحة شاتيلا، رحلت واحدة من الضحايا الأحياء، وهي تحمل في ذاكرتها، وعقلها، وقلبها، عذابات الضحايا الشهداء، وأصواتهم التي تنادي بالعدالة، وبالقصاص من القتلة.
*****
تحدَّثت "عزبا حسن خضر" عن رحلة نضالها السياسي، منذ ريعان شبابها، حيث التحقت بجيش التحرير الفلسطيني، وقوات التحرير الفلسطينية العام 1969، ثم عن نضالها ضمن صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في أواسط السبعينيات، بعد تفتت جيش التحرير، وعن تطور المشاركة السياسية للنساء، منذ العام 1969.
ومن خلال شهادتها، وشهادة العديد من النساء اللواتي شاركن في العمل السياسي، في تلك المرحلة؛ تبيَّن ازدياد مساهمة النساء في العمل العسكري، الذي تجسَّد من خلال ازدياد انتماء النساء، إلى منظمات المقاومة الفلسطينية المسلحة، حيث لم تكتف النساء بالتدريب العسكري؛ بل ساهمن في قيادة المعسكرات التدريبية، ونقل السلاح، وحراسة المواقع، وشاركت في تنفيذ عمليات عسكرية.
"أول ما نشأت، قالوا: عمل فدائي عام 69، ذهبت مع الذين ذهبوا إلى الأردن. أهلي كانوا غير موافقين، ولكن أصرّيت، كانت العقلية منغلقة جداً، وواجهت متاعب كثيرة، ولكن تخطيت المسألة، وأقنعت أهلي.
رحنا دورة عسكرية، وبقينا شهر. كان هناك معسكر للنساء ومعسكر للشباب. كنت أحمل البارودة، وأحرس، وكان مثلي الكثيرين، نعمل بنشاط وحيوية: ستبدأ الثورة، نريد تحرير فلسطين. بقينا شهر في الأردن، أتينا إلى لبنان. اندمجت بجيش التحرير، أسَّسنا معسكر للبنات، كنت مسؤولة عن مخيم برج الشمالي والرشيدية، يوجد عنا فصيل مؤلف من 32 فتاة، كلنا عسكر، نعمل رمايات، ونحرس، ونشارك بالمسيرات، لغاية ما بدأ جيش التحرير يفرفط.
بدأ كل واحد يختار الفصيل الذي يريد. اخترت الجبهة الشعبية، دخلتها سنة 76، وكان مجالي باللاسلكي. خضعنا لأكثر من دورة، وأصبحت مسؤولة الإشارة بالجبهة الشعبية لغاية الثمانين. كنت دائماً مسؤولة العمليات، بعد ذلك صار هناك قوات مشتركة، كانت المرأة الفلسطينية بأول انطلاقة الثورة تقوم بعدة مهمات لا تختلف عن الرجل، تحمل البارودة مثل الرجل، وتناضل مثله.
تدرَّبنا على الأسلحة، وعلى الرماية، وكيف نتصرف عندما يهاجمنا العدو، كيف تكوني في معسكر ولا تكشفي نفسك، كيف تدفنين حتى عود الكبريت، لا نبقيه بالأرض التي كنا نتواجد فيها، وكنا أثناء الليل حراسات دورية. لما أتيت ألّفنا مجموعة من 30 امرأة، وأنا التي كنت أدرِّبهم على السلاح، كنا نعمل رماية. كنت مسؤولة العسكر البنات.
كنت بمنطقة الجنوب، واكبت كل الاجتياح بصيدا، كنت مسؤولة القوات المشتركة للتنظيمات كلها بما فيهم فتح، طبعاً فيها رجال قلائل الذين كانوا باللاسلكي. فتح كانت تقول: نحن ما قهرنا إلاّ الجبهة الشعبية، وضعت المسؤول بنت، يعني لا يهون عليهم، وإنتِ عارفة بالجبهة ما كان بنت ورجل، لا تفرّق بين الرجل والبنت، لها حقوق مثلها مثل المقاتل، وعليها واجبات مثلها مثله.
بفترة الاجتياح كنت ببرج البلد، كان الشباب يقولوا: إحنا بنصمد لأننا نسمع صوت عزبا بالإشارة، طول ما صوتها يلعلع كنا نصمد بالإشارة، نحن معنوياتنا دائماً مرتفعة، نحن كنا نوصّل المعلومات الميدانية للعمليات المركزية".
*****
واجهت المناضلة مسيرة كفاحها بهمة عالية، وصمدت في وجه الصعاب، وخاصة خلال الاجتياح الأول والثاني؛ لكن ما شاهدته في شاتيلا، أثناء المجزرة كان فوق تحمل البشر، كان "يسرق خاتماً من لحمها، ويعود من دمها إلى مرآته":
"حصلت المجزرة وكنت في شاتيلا. دخلت على ابن عمه لأبي "علي زيدان"، كنت ألعب شدّة واياه قبل يوم واحد تحت الدرج من قصف الطيران، وجدت رأسه منفصل عن جسده، لمّا رأيت هذا المنظر لم يبقَ في رأسي عقل! ولا إعلام ولا شيء. كانت لطفية صاحبتي تغلق فم ابنها حتى لا يتنفس، حتى لا يعرف أحد أن هناك أناس في الداخل، لمّا يعلموا بوجود بيت فيه ناس يخلعون الباب ويدخلون ويذبحونهم من في الداخل، يعني لم ينجُ إلاّ كل طويل عُمُر! رأيت حوالي سبع جثث فوق بعضهم. المقتول بالرصاص كان يقاتل أما المقتول بالبلطات هم دخلوا عليهم. غالبيتهم نساء، هؤلاء بيت "المقداد" كلهم نساء، لأني أنا التي هرّبتني من شاتيلا واحدة من بيت "المقداد"، حمّلتني ولد صغير وقالت لي: قولي هذا ابني. هرّبتني وقت المجزرة، نعم. بالليل أكثر يجزرون، بالنهار كانت الفدائية تخرج لهم؛ ولكن بالليل الله أكبر! لا أحد يسترجي! لا تسمعي إلاّ الصريخ لغاية ما خرجنا. بقيت ليلتين داخل شاتيلا. ليلتين. ذهبت وأخبرت الشباب، قال لي المسؤول العسكري أن أذهب وأبلغ الشباب عن المجزرة، ذهبت وعلقت في الداخل، حتى صحّ لي ناس أخرجوني. نعم كان اليهود على مدخل "صبري حمادة"، بالضبط هم والكتائب. هربت في ذلك اليوم واختبأت ليلة ونهار عند نائب لبناني، في الحمام، بحارة حريك. حتى إذا دخلوا وفتشوا لأن الدبابات الإسرائيلية كانت مطوّقة منزله. طبعاً لمّا انسحبوا فوراً خرجنا، خرجت أنا فوراً إلى سوريا. الكتائب كانوا يدلّون الإسرائيليين. وأنا ذاهبة، الجيش مليئة أناس عيونهم معصّبة، ورأينا مجموعة على الحدث بالضبط، عند الشويفات هناك أنزلوا ناس منهم، أنزلوهم صفّوهم ورشّوهم وتابعوا طريقهم أمامنا. أكثر من 12 واحد. كانوا يلمّونهم ويأخذوهم بدون سبب على مثلث شويفات، مفرق عرمون، ومثلث شويفات، على المصلبية. كانوا يحفرون في خلدة ويضعونهم حتى لا تفوح رائحتهم. صار عندي حالة نفسية، لمّا هدأ الوضع عُدت إلى شاتيلا وبقيت 3 سنوات بعد المجزرة".
*****
تكلَّم الموت، ثم تكلَّم الضحايا الأحياء، ممن شهدوا المجزرة،
فمتى يتكلَّم القاتل؟