أتفهّم تماماً إجراءات الأمن والحماية لموكب الرئيس محمود عباس، في طريقه من وإلى المقاطعة، أو أثناء اصطحابه أحد ضيوفه الرسميين.. ولا أقصد سلامة الإجراءات ونجاعتها، فهذه أمور لا أفهم بها؛ بل أعني من حيث أهميتها، نظراً لأن الرئيس يمثل الشرعية، وفي هذه المرحلة الدقيقة والحساسة فإن أية محاولة للتعرض له قد تكون شرارة لفتنة داخلية لا يعلم مداها إلا الله، وهناك أعداء كثيرون للشعب الفلسطيني لا يريدون له الأمن والاستقرار.. لاسيما وأنه لا يوجد نائب للرئيس، ومن ناحية ثانية، بسبب الانقسام، وتعطل المجلس التشريعي، فإن النص الدستوري المتعلق بمن يخلف الرئيس لن يفيد، بل سيكون سبباً للتجاذب وتأجج الصراع على السلطة.
وقد أتفهم أيضا موكب رئيس الوزراء رامي الحمد الله، خاصة في حالة وداعه أو استقباله لضيف كبير لفلسطين، ولأنه يأتي من خارج رام الله، وقد يتعرض لمضايقات من المستوطنين.. ولكن، مع مراعاة عدم المبالغة، وعدم إغلاق الطرق، والاستغناء عن الإجراءات المشددة في حالة زيارته لمواقع محلية، أو مشاركته تفاصيل الحياة العادية للمواطنين.
أما ما لا أفهمه، ولن أفهمه بأية حال، فهو مواكب بعض الوزراء وبعض كبار موظفي الدولة، وبعض قادة الأجهزة.. وقد أعجبتني صراحة وشجاعة الإعلامي «طلعت علوي» وهو ينتقد بشدة على الأثير موكب أحد الوزراء، والمبالغة في إجراءات تأمين مروره من الشارع، قائلا: «سمعت عن تأمين على السيارة، تأمين على الحياة... أما تأمين الشارع لمرور الوزير، فهذا شيء جديد!».
كتب الكثيرون عن بساطة إجراءات الأمن لرؤساء حكومات ووزراء في الدول الغربية، وعن تواضعهم، واختلاطهم بالناس دون حواجز، وعن مرورهم من الشارع بلا مواكب، ولا حراسات، وعن استعمالهم لوسائل النقل العامةـ، أو حتى «البسكليت»... وهناك عشرات الأفلام الموثقة لمن يريد التأكد من ذلك.. قد لا نتوقع وصول أي من البلدان العربية إلى هذا المستوى الراقي في سلوك المسؤولين، على الأقل في المدى المنظور.. ذلك لأن السلطة في الثقافة العربية ما زالت تقترن بالمغانم والمكتسبات والمزايا.. لا بالعمل والبذل والإنتاجية..
ومع أننا «دولة» تحت الاحتلال، ونعيشُ في مرحلة نضالية، وعدد كبير من كبار المسؤولين جاؤوا من رحم الثورة والمعاناة، ومن الأوساط الشعبية، وحتى أولئك الذين أتوا من خلفيات اقتصادية وأكاديمية وعشائرية.. من المفترض أن يكونوا أقرب للناس، وأكثر تواضعاً.. لكن، الغريب والمستهجن السلوك الاستعلائي لبعض الوزراء والمسؤولين، سواء داخل أماكن عملهم، أو في الشارع.. وإصرارهم على زيادة الفجوة التي تفصلهم عن الناس، وتعميق عزلتهم عنهم.
ما الحاجة للمرافقين والحراسات، والمواكب؟! وكلنا نعلم أن إسرائيل لا تنوي اغتيال أي وزير، ولا أي قائد عسكري أو أمني.. وفي حال أرادت ذلك، فلن تغني تلك الإجراءات بشيء.. وبما أن إجراءات الأمن والمرافقات تُتخذ فقط داخل المدن، وغالبا لا يستطيعون اتخاذها خارجها؛ فهل السادة الوزراء مطمئنون لعدم تعرضهم للاعتداء من قبل المستوطنين أو الجيش الإسرائيلي، ولكنهم قلقون على أنفسهم من الشعب! والأهم من ذلك، ألا يدرك السادة الوزراء أن لا أحد تقريبا من الشعب يعرف وجوههم، ولا حتى أسماءهم! فلو نزل أي منهم وتجول في سوق الخضار لن يتعرف إليه أحد، ولو توقف عند أية إشارة ضوئية، أو علق في أية أزمة مرورية، فلن يميزه أحد.. هذا على افتراض أنهم مستهدفون.. وهم بالتأكيد ليسوا على بال أحد.. إذاً، ما الداعي لكل تلك الإجراءات! أليس هذا هدراً للمال العام؟
ولا تقتصر تلك الإجراءات على الحراسات، ووضع الحواجز المادية والمعنوية التي تعزلهم عن المواطنين والموظفين؛ بل وتشمل أيضا إحاطة أنفسهم بهالات من «البريستيج»، فمثلا، لا يتصرف المسؤول بوصفه إنسانا أولاً، وأنه ليس أفضل من الآخرين، وكل ما في الأمر أنه صار موظفا برتبة وزير أو وكيل أو محافظ... وبدلا من ذلك، يبدأ بالتصرف بفوقية؛ مثلا، على أحد أن يفتح له باب السيارة، وآخر أن يحمل حقيبته الشخصية، وآخر يحمل هاتفه النقال، وآخر يطلب له المصعد، ونادرا ما يبتسم لأحد، وإذا شارك في أية مناسبة اجتماعية، يدخل باستعراض مفتعل، كما لو أنه القائد الفاتح.. أعرف وزيرا، وضع على مدخل الطابق الذي فيه مكتبه بوابة إلكترونية.. ولو كان مسؤولا عن الحقيبة النووية لتفهمنا ذلك.
أعتقد أن الإصرار على الألقاب والتفخيم، وكل تلك الهالات المزيفة من الهيبة والوجاهة، إنما هي لتعويض عقدة النقص لدى المسؤول، ولإثبات حضوره بقوة المنصب الذي يشغله، والاستفادة من مزاياه الاجتماعية.
وحتى نتجنب التعميم، ومن باب الأمانة، ينبغي التأكيد على أنه ليس كل المسؤولين لدينا يتصرفون على هذا النحو؛ بل أكثرهم يتصرفون بشكل طبيعي، وضمن المعقول.. وبعضهم كان مثالاً للعطاء والإنسانية، أذكر مثلا الوزير المرحوم «أبو علي شاهين»، كان شديد البساطة والتواضع، منفتحاً إلى أبعد حد في تعامله مع الموظفين، ومع الناس، وكان بوسع أي أحد أن يدخل مكتبه بكل سهولة.. وكان يرفض لقب «معالي»، ويحب أن ينادى بكلمة أخ.. ومثله كثيرون..
كل ما هو مطلوب، قليل من التواضع..