مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لاندلاع هبة السكاكين أو انتفاضة القدس، أو ما شئت من مسمى، لم يتفق عليه جانبا الانقسام الفلسطيني، أيضاً، ومع أن وهج تلك الهبة بدا أنه خبا، في الأسابيع أو حتى الأشهر الأخيرة _ لأسباب عديدة، أهمها، أنها لم تدعم بإسناد سياسي أو حتى تنظيمي، فالسلطة من جهة، وحتى "حماس" من جهة أخرى، لم تعلن صراحة ولا فعلاً، ولا حتى قولاً عن تبنيها لانتفاضة الشباب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال والمستوطنين بالسكاكين والدهس بالسيارات _ إلا أنها عادت كما لو كانت ناراً من تحت الرماد، خلال الأسبوع الماضي للانطلاق مجدداً.
السبب بسيط، وهو أن الظروف والأسباب التي دفعت الشباب قبل عام للتدافع في أعمال شبه استشهادية، ما زالت هي نفس الظروف، فالاحتلال قائم دون أفق بزواله، الحواجز، الاعتقالات، الفقر والبطالة، ثم الانقسام الداخلي، الذي يبدد الأمل بإمكانية أن تنجح النخبة الفصائلية الحالية في تحرير الوطن، وتأمين مستقبل أفضل لشباب من الطبيعي أن تكون له طموحاته في أن يعيش حياة مختلفة عن تلك التي عاشها أبواه.
لا بد من القول، إن وهج انتفاضة الشباب قد خبا، قبل وقت، حين لاح في الأفق أمل بولوج بوابة إنهاء الانقسام عبر إجراء الانتخابات المحلية، بعد أن وافقت عليها الأطراف المعنية، وبعد أن تحدد موعد إجرائها، كذلك بعد أن بدأت العملية الانتخابية فعلياً، بتقديم القوائم الانتخابية في كل المجالس المحلية بمدن وقرى "دولة فلسطين" في الضفة والقطاع، وبعد أن بدأت عملية الطعون، بعد إغلاق باب التقدم للجنة الانتخابات المركزية بترشيح القوائم.
ما جرى بعد ذلك _ برأينا _ مثّل عامل إحباط، رغم أن المعلن هو تأجيل العملية الانتخابية، إلى أن تبتّ المحكمة العليا بقرار الطعن يوم غد الأربعاء، وبغض النظر عن القرار، الذي إن جاء راداً لقرار المحكمة بوقف العملية الانتخابية، فإن العودة للمسار الانتخابي، ربما تتطلب مرسوماً أو حتى قراراً من لجنة الانتخابات بتحديد موعد جديد لإجرائها، قد يكون بعد أسبوع أو اثنين من الموعد المحدد في الثامن من الشهر المقبل، وذلك لتعويض فترة التعطيل أو التوقف عن متابعة المسار الانتخابي، أما إذا جاء القرار مؤيداً لقرار المحكمة، بعدم إجراء الانتخابات، فإن "ترتيباً" سياسياً عاماً سيكون واجباً، ربما يتضمن إيعازاً مباشراً أو غير مباشر بتجديد الفعل الانتفاضي.
في الحقيقة، ورغم أن قرار تجميد العملية الانتخابية قد جاء وفق القانون، وأظهر أن السلطة السياسية تحترم جداً القانون، إلا أن بعض الظن الذي هو إثم، لا يمكنه أن يستبعد التفكير بوجود دوافع سياسية أو حتى تدخلات خارجية (خارطة طريق الرباعي العربي مثلاً، التي أوحت بإمكانية إنهاء الانقسام دون الحاجة لإجراء الانتخابات)، كانت وراء اتخاذ القرار، وما القول إن القرار هو بتجميد العملية وليس بإلغائها، إلا محاولة لامتصاص ردود الأفعال، التي لا بد أن تتبع القرار، والتي لا بد أن تأتي من كل الاتجاهات، بما فيها أوساط حركة "فتح"، حاملة السلطة على كفيها وكتفيها.
على العموم، بالنظر إلى أن قرار التجميد أو التأجيل قد جاء بعد تقدم أحد المواطنين باعتراض على إجراء الانتخابات دون القدس، وإذا ما كان هذا المسوغ صحيحاً، وأقرت به المحكمة العليا، فإن ذلك يعني أن السلطة التنفيذية، التي اتخذت قرار إجراء الانتخابات، قد ارتكبت خطأ، ربما يفتح الباب إلى إجراء تغيير للحكومة كلها، فليس من المعقول أن يمر مثل هذا الأمر، على الحكومة بكل أعضائها، بمن فيهم وزيرا الحكم المحلي والعدل.
ولكن بالإشارة إلى ما كنا قد قرأناه سابقاً، بأن حديث الانتخابات المحلية، إنما كان يهدف من ضمن ما يهدف إليه بث الأمل، خاصة بين صفوف الشباب الفلسطيني، وفي وقت سياسي دولي وحتى إقليمي مستقطع _ بسبب الانتخابات الأميركية _ وعدم نجاح المبادرة الفرنسية ولا حتى المصرية المكملة لها، بعقد مؤتمر دولي حول الشأن الفلسطيني، كذلك إلى إلهاء المحفل السياسي / الفصائلي بصراع جديد أو متجدد على السلطة المحلية هذه المرة، بعد تعذر فتح أبواب الصراع على السلطتين التشريعية والتنفيذية مجدداً.
المهم أن حركتي "فتح" و"حماس" اللتين نجحتا حتى الآن، بعد مرور عشر سنوات بإدارة الانقسام دون أن ينفجر الوضع الداخلي لا في غزة ولا في الضفة في وجهيهما وضد سلطتيهما، نجحتا في الفصل الأخير في إدارة الوهم الانتخابي أو بتجديد الوهم، بوجود محطة أخرى لبث الأمل بإنهاء الانقسام، بعد كل جولات الوهم بذلك إن كان في القاهرة أو الدوحة أو حتى الشاطئ!
لكن ولأن حبل الكذب قصير، ولا بد أن تظهر في يوم ما حدود أو تفاصيل اللعبة السياسية، فإن المقدمات الأولى للانتخابات، أي لحظة إغلاق أبواب التقدم بالترشيحات، كانت فاصلة، وربما هي التي كانت وراء أن يتقدم أحد المواطنين باعتراض قانوني على إجراء الانتخابات، وإلا كان قد تقدم به، قبل كل ما حدث من تسجيل الناخبين، ومن الترشح، فقط حين فتح باب الطعون، وكان المقصود الطعن بمرشح أو عدد من المرشحين أو القوائم المرشحة.
المهم أن "النتائج" الأولى أظهرت فوز "فتح" بنحو 40% من المجالس بالتزكية، وذلك في الضفة الغربية التي تراهن "حماس" على أن تفوز بأغلبيتها، كذلك إغلاق باب الترشيحات أظهر عدم تشتيت قوة "فتح"، حتى مع وجود مشاكل داخلية فيها، فكان أن لجأت "حماس"، عبر محاكمها غير الشرعية في غزة، لشطب عدد من قوائم "فتح" كاملة، بهدف أن تضمن استمرار السيطرة على قطاع غزة، ما يعني أن مواصلة إجراء الانتخابات المحلية، ستؤدي إلى نتيجة عكسية، فبدلاً من إنهاء الانقسام، ستكرسه، بحيث تفوز "فتح" بأغلبية المجالس في الضفة وتفوز "حماس" بأغلبية مجالس غزة، وكأن إجراء الانتخابات استفتاء بنعم على الانقسام، وعلى تفرد "حماس" بحكم غزة و"فتح" بحكم الضفة!
الوهم والحقيقة في الواقع الفلسطيني
23 سبتمبر 2023