أقام الجيش الإسرائيلي، صباح الثلاثاء الماضي، حاجزاً داخل قرية بني نعيم، جنوب شرق الخليل. لم يأتِ القرار استناداً الى مصادر استخبارية خفية، بل إلى التجربة التي تراكمت منذ الصيف الماضي. فقد خرج شابان من القرية في الأيام الأخيرة للقيام بعمليات ولم يعودا – الاول قتل، والثاني اصيب بجراح خطيرة. وبعدهما لا بد سيأتي الثالث. وبالفعل جاء. وعندما أمره الجنود في الحاجز بالتوقف امتشق سكينا، فأطلقوا النار عليه كي يصيبوه. لوح بالسكين، فاطلقت النار عليه فقتلته.
انهم لا يموتون من أجل قدسية فلسطين؛ انهم لا يموتون من أجل الاسلام؛ ولا من أجل قتل اليهود. انهم يموتون بسبب اليأس. الهدف هو الموت والجنود هم الوسيلة. بالضبط عكس ما كان في موجات «الارهاب» السابقة: في حينه كان الجنود هم الهدف والموت هو الوسيلة. ومثلما قالت براء رمضان عويصي، الفتاة ابنة الـ 12 التي وصلت قبل الى حاجز الياهو، ما كان يسمى ذات مرة حاجز الفواكه، كانت تحمل حقيبة لم يكن فيها سلاح، ولا حتى سكين، ورفضت اطاعة تعليمات الجنود. «ابي يكسب أجرا زهيدا في بلدة قلقيليا، أمي عاطلة عن العمل، أردت أن أموت». وانتهت باصابة في ركبتها.
المعطيات التي تراكمت لدى الجيش الاسرائيلي على مدى السنة مثيرة: سأعود اليها لاحقا. قضيت يوم الثلاثاء في الخليل، في ما يسمى في الاتفاقات H2 المنطقة التي يفترض ان يعيش فيها 40 ألف فلسطيني و400 يهودي تحت حكم إسرائيل. تغيرت الاعداد: العرب تناقصوا عدة آلاف واليهود ازدادوا عدة مئات. ما تبقى على حاله هو الاكتئاب. في كل مرة أصل فيها الى الخليل، يصيبني الاكتئاب من جديد. ليس ثمة بين النهر والبحر مكان يبعث أكثر على الاكتئاب، يشغل البال اكثر ومعادٍ أكثر – ولا حتى مخيمات اللاجئين في غزة.
حاجز الشرطي، على لسان العرب حاجز الشهداء، هو أحد المعابر بين شطري المدينة. بين الحين والآخر يرشق الفتيان في الطرف الفلسطيني الحجارة على جنود الناحل في الطرف الاسرائيلي. يرد الجنود بقنابل الصوت والغاز المسيل للدموع. يثير الغاز الحكة. عائلة فلسطينية – أب، أم، وثلاثة اطفال صغار – يسيرون في الشارع المكفهر، الذي يسميه العرب شارع الشهداء ويسميه اليهود دافيد هميلخ. الأم هي أول من يشم الغاز. فتحذر الاطفال الذين يغطون وجوههم بعجل بأطراف أكمامهم. الاطفال لا يبكون، لا يشتكون، فقد ولدوا في ظل الغاز.
أما الاكتئاب فيتولد من المحلات المغلقة: مئات المحلات كانت في هذا القسم من الخليل، وكلها، باستثناء بعض تلك التي حصلت على الاذن بالفتح، مغلقة بابواب من حديد؛ وبالاسيجة والاسمنت؛ من المنازل المهجورة؛ من القمامة التي لا تخلى؛ من الكمية الكبيرة من الجنود في كل مكان؛ وبالاساس من الفراغ، من الصمت مثل ميدان المعركة، مثل ارض اليباب. الموت هنا يسود، كتب يورم طهارليف في ملحمة عن يوئيل موشيه سلومون. سمع سلومون تغريدة عصافير فهدأ. في الخليل لا توجد عصافير: فالرصاص يجبرها على الهروب.
قرب «مغارة الماكفيلا» (الحرم الإبراهيمي) مقابل محل الهدايا التذكارية اليهودية، يوجد محل يعرض منتجات قاتمة. رمان فخاري أحمر لرأس السنة، صحون على الطراز الارمني، منصات للنرجيلة.
«بضاعتي لا أبيعها هنا»، يقول محمد، صاحب المحل. «انا أبيع في سوق الخردة في يافا، في محلات في تل أبيب». هو ابن 48، طليق اللسان وفهيم. له شقة في الطرف الاسرائيلي وشقة في الطرف الفلسطيني. هناك ايضا سيارته. «في التاسعة يغلقون الابواب»، يشرح. «اذا علقت فقد علقت».
لماذا يخرج الشبان للعمليات، أسأل. «لا عمل، لا مال»، يقول محمد. «اذا نال عملا، فكم سيكسب؟ ربما 1500 شيكل في الشهر. لا يمكنه السفر الى القدس، الى تل أبيب، الى البحر. لم يتبقَ للشباب ما يخافون عليه».
عامله يجلس في مدخل المحل ويلون، بيد فنان، الصحون الارمنية قبل أن يدخلها الى الفرن. يرفع يرأسه. «سجن واحد كبير»، يقول. «سجن واحد كبير».
«هؤلاء الشبان لا يفكرون بفلسطين»، يقول محمد. «ليس لهم ما يخسرونه. اذا استمر الوضع هكذا كل شيء سينفجر».
ما الحل، سألت.
«اذا قسمنا 400 على 50، فكم يكون؟» اجاب محمد بسؤال.
«8، صحيح؟ 50 مكانا يوجد في الباص، 400 يهودي يوجد في الخليل. فلتأت 8 باصات من (ايغد)، فتأخذهم جميعهم».
نظر اليّ كمنتصر. يوجد حل بسيط جدا، سهل جدا، لم يفكر أحد فيه من قبل.
دولتان؟ سألت.
«دولة واحدة»، قرر.
أطفال الدلال
في الجيش الاسرائيلي قدروا بان موجة العنف ستستأنف، بعد سنة من بدئها. «قلنا تعالوا نر ما تعلمناه، كيف سنتحسن. نحن تنظيم يتعلم»، يقول مصدر عسكري.
أفاد تحليل العمليات الاولى بأن السكاكين تنجح في قتل أو جرح المدنيين، وبالاساس المدنيات. اما اللقاء بين الجنود والسكين فتنتهي على ما يرام بشكل عام.
في المرحلة الثانية بدأت عمليات اطلاق النار. في معظم الحالات كان السلاح من انتاج محلي. تبين أنه وراء الارتجال يقف مهنيون: في الضفة تعمل صناعة سلاح مزدهرة. والبندقية التي تنتجها هي وسيلة ناجعة للغاية، تطلق عيارات منفردة وتطلق صليات. مثل هذه البندقية عملت في العملية التي وقعت في نطاق سارونه.
أغلق الجيش الاسرائيلي 30 مصنعاً، اكبرها في بيت لحم. والآلات التي اكتشفت في بيت لحم كانت في مستوى رفيع. اعتقل المالكون. ونتيجة لهذه الاعتقالات ارتفع سعر السلاح في الضفة. كارل غوستاف من انتاج محلي كان يكلف قبل سنة 2.000 شيكل ارتفع اليوم الى 4.000. بندقية ام 16 عسكرية اسرائيلية تكلف 80.000 شيكل.
معظم السيارات التي شاركت في عمليات الدهس كانت قديمة تباع في اسرائيل لأغراض القطع المستعملة. وفي العربية يسمونها سيارات مشطوبة. وبدلا من ان تذهب الى التفكيك، وصلت الى الضفة. وعملت الشرطة والجيش ضد التجار.
بُذل جهد لاستكمال بناء جدار الفصل لوضع العراقيل في وجه عبور منفذي العمليات الى اسرائيل. وجرت أعمال لتقليص عدد الماكثين غير القانونيين. من جهة اخرى أصر الجيش على مواصلة السماح للفلسطينيين بالعمل القانوني في اسرائيل، وتحويل الاموال، وتقديم تسهيلات في فترات الاعياد. في الحكومة لم يستطيبوا هذا، ولكنهم سلموا به. خرجت 300 عملية من القدس ومن «المناطق» على مدى السنة، ولكن حسب تقدير الجيش الاسرائيلي منعت 2.000 عملية.
في الجيش طوروا «طريقة التقسيم الموسعة»: يجب التأثير على الأب، على المعلم، فلعلهما يهدئان الشباب. يتلقى الاهالي مكالمات هاتفية وكذا المعلمون. يمكن للمكالمة ان تأتي من اسرائيل أو من جهة في السلطة الفلسطينية. وبالفعل، كان للمعلمين اثناء هذه السنة دور ايجابي. فقد شرحوا للتلاميذ عدم جدوى خروجهم إلى الحاجز.
القصة الجغرافية مشوقة: في الموجة التي بدأت في السنة الماضية وخبت حتى نيسان، خرج 40 في المئة من «المخربين» من سبع قرى، مدن، أو احياء. 50 في المئة من العمليات وقعت في سبعة اماكن.
مئة حالة اختيرت وحقق فيها حتى النهاية. تبين أنه فيها جميعها كانت قصة شخصية. أطفال الدلال: ليس من هوامش المجتمع، مثلما في الانتفاضة السابقة، بل من عائلات ميسورة. ولكنهم فتيان كل واحد منهم حمل على ظهره حملاً.
هذا التفسير لا يقول الكثير: بعد 50 سنة احتلال لكل فتى فلسطيني توجد مشكلة شخصية – قريب للعائلة قتل او يوجد في السجن، اهانة على الحاجز، ضغط من المخابرات والجيش الإسرائيليين، ضغط من الاجهزة، عائلة متفككة وغيره وغيره. ليست المشكلة هي التي تغيرت بل الحل. يوجد حل: أن يكون شهيداً.
«هذا فيروس»، يقول مصدر عسكري. «مثلما يأتي الفيروس، هكذا يعود. هناك أناس اكثر حساسية للفيروس، وهناك اقل حساسية له».
من السهل، وربما من السهل جدا، الشرح لماذا عاد الفيروس الآن: عيد الاضحى، اعياد تشري المقتربة، التي تبشر ضمن امور اخرى بالحجيج الجماهيري لليهود الى الحرم، اطفال قتلوا، بما في ذلك طفلة ابنة اربعة اعوام اجتازت طريق 60، طريق القدس – الخليل، ودهستها مستوطنة. لم يسأل الفلسطينيون ماذا كانت تفعل ابنة أربعة على طريق ما بين المدن. بل شبهوا الدهس بمقاييس القتل.
وبعد بضعة اسابيع سيبدأ موسم قطف الزيتون.
«عمونه» الجديدة
في كانون الأول يفترض بالدولة ان تخلي وتهدم منازل «عمونه»، البؤرة الاستيطانية التي بنيت على اراض فلسطينية خاصة، قرب مستوطنة عوفرا. وكانت محكمة العدل العليا قررت الهدم بعد تأجيلات لا حصر لها. ويعصف الاخلاء بالساحة السياسية. 25 من 30 عضواً في كتلة الليكود، بينهم وزراء ورئيس الكنيست أعلنوا بانهم يعارضون الاخلاء. اعضاء في كتلة «البيت اليهودي» يهددون بالانسحاب من الائتلاف. سياسيون وموظفون يبحثون بالشموع عن اختراع يزيل شر القضاء، قانون يتجاوز العليا او اقامة بلدة على ارض بديلة. اذا اخليت «عمونه»، يقولون في اليمين، سيتعين عليهم ان يخلوا 3 آلاف منزل في المستوطنات ذات المكانة المشابهة: نهاية العالم، خرب البيت. ولذات السبب بالضبط في جمعيات اليسار يفركون أياديهم؛ فقد نجحوا.
وأنا اقول، لا تهدموا ولا تخلوا. اذهبوا الى محكمة العدل العليا واعترفوا امامها: قصرت يدنا.
لا معنى للاخلاء؛ حيث يوجد لذلك سببان: أخلاقي وعملي.
السبب الاخلاقي يعود 40 سنة الى الوراء، الى التحول الذي رفع «الليكود» الى الحكم. في العام 1978 توصلت حكومة بيغن الى اتفاق سري مع «غوش إيمونيم» على اقامة 6 مستوطنات في الضفة، واحدة منها بيت ايل، شمال رام الله. رفع أصحاب الاراضي التماسا الى المحكمة العليا ومثل الدولة جبريئيل باخ ودوريت بينيش، القاضيان في العليا لاحقا. وادعيا بان الارض صودرت لاغراض عسكرية. اما الهيئة القضائية برئاسة موشيه لنداو فترددت وتلبثت، وفي النهاية صادقت على المصادرة.
رد بيغن بدعابة محفوظة لمحبي كرة القدم بعد تسجيل هدف. «يوجد قضاة في القدس»، اعلن. وخلافاً لما حزّ في الذاكرة العامة فان بيغن لم يسعَ الى تعظيم المحكمة، بل سعى الى تعظيم انتصاره.
منذئذ كانت المحكمة العليا مطالبة بان تتناول مئات الالتماسات المتعلقة بالمستوطنات. وحجة الاحتياجات العسكرية استبدلت بحجة اخرى، ان الاراضي هي ملكية الدولة. وكانت الحجتان مهزوزتين في افضل الاحوال، وكاذبتين في اسوأها، ولكن في معظم الحالات سارت العليا في تيارها. وأشغلت بال القضاة بالاساس مسألة واحدة: هل منازل المستوطنة مقامة على ارض فلسطينية خاصة؟ مثلما كتب لنداو في قرار الون موريه: «حق الملكية الخاصة هو قيمة قانونية مهمة... الصهيونية تقف على حق العودة لشعب اسرائيل إلى بلاده، ولكنها لم تسع ابدا الى سلب سكان البلاد من حقوقهم المدنية».
سلم أولويات قضاة العليا على اجيالهم كان واضحا: من المسموح نزع القانون الدولي الذي يمنع نقل السكان الى ارض محتلة؛ من المسموح نزع حكومات اسرائيل من سياستها الرسمية، التي تتحدث عن اقامة دولة فلسطينية في الضفة وفي غزة؛ من المسموح نزع معظم الاسرائيليين من تطلعهم ليعيشوا في دولة يهودية وديمقراطية، من المسموح نزع الفلسطينيين من مستقبلهم. ولكن يحق لمحمد أن يملك قطعة ارض لن يتمكن ابدا من فلاحتها أو البناء عليها، قطعة على الورق، على هذا تصر محكمة العدل العليا. هذا سيكون الملجأ الاخير للعدالة، الملجأ الاخير للقانون.
لعله يمكن تبرير هذا الفهم بمفاهيم قانونية وسياسية. ولكن اصعب من ذلك تبريره من ناحية اخلاقية. المشكلة لا تتعلق بالقضاة فقط. من يرفع التماسا بدعوى انه يتم المس بحق الملكية الخاصة لاحد ما، يشارك في تسويغ الاستيطان في باقي الارض. هذه هي طبيعة اللعبة.
اخلاء «عمونه» سيئ ايضا من ناحية عملية. حجم الاحتجاج في القطاع الاستيطاني كحجم التعويض الذي سيدفع مقابل الاخلاء الطوعي. ومثلما في قضية «ميغرون»، ستقيم الحكومة «عمونه» جديدة أكبر واوسع من «عمونه» القائمة. اللوبي القطاعي لن يكتفي بذلك: فهو سيطالب بتسويغ البؤر الاستيطانية العشوائية الاخرى، ربما كلها، في الماضي، في الحاضر وفي المستقبل. وهو سيطالب بتشريع يسمح بمصادرة الارض الخاصة؛ سيطالب بالميزانيات. وبالمقابل، فان يوم الاخلاء سيوفر للحكومة صورا قاسية، فتيات يبكين بمرارة على كتب توراة، فتيان يصرخون من فوق الأسطح والعالم كله سيعرف بان اسرائيل هي دولة قانون: يوجد قضاة في القدس.