تتعاظم الأزمة والحرج، اللذان يعيشهما اليسار الاسرائيلي في الجيل الأخير، جدا في الاونة الاخيرة. فالجدالات التي تجري من على صفحات الرأي في الصحف تدل أكثر من أي شيء على الوضع النفسي الصعب لمن لم يفقد طريقه فقط بل لم يعد يعرف من هو ايضا. وما هي هويته.
من الصعب محاولة تحليل المرض ومحاولة معالجته عندما تكون هوية المريض غير معرفة جيداً. فالصهيونية الاشتراكية لم تكن توحيدية أبدا. فقد كانت فيها دوما تيارات وانقسامات. وكلما تعاظم تواتر استخدام جذر الوحدة باسم الحزب او الحركة شهد الامر انقسامات إلى شظايا وانهزاماً. الوحدة والاتحاد والموحدة والمتحدة كلها أخفت الشروخ والصدوع. ولكن الهوية الصهيونية كانت واضحة. فقد كان الجدال على تعليم الاولاد او على التوجه المؤيد للسوفييت، ولكن بناء الشعب والبلاد كانا مخروطين كما يرغبان. اما في الفترة الاخيرة فلم أعد واثقا لمن سيصل الكتاب الذي سيحمل عنوان "اليسار الاسرائيلي". فمن شبه المؤكد انه سيجد طريقه الى نهاية العالم.
يتميز اليسار الاسرائيلي على الوانه بأنه لا يكتفي بالصراعات الاجتماعية، و"الحرب الطبقية" الاشتراكية، بل يضم اليها في الوقت ذاته التأييد للموقف العربي في النزاع بين الشعبين. وهذا الربط هو جذر مصيبة اليسار الاسرائيلي. معظم الجمهور، الذي كان يمكنه أن يكون شريكا في الكفاح بصيغة "الشعب يريد عدالة اجتماعية"، يمتنع عن الصعود الى عربتهم، إذ فيها يدعون ايضا حرمان حق الشعب اليهودي في السكن في كل أرجاء وطنه، وتأييد حق العرب في ان يقيموا دولة لهم في قلب وطننا التاريخي.
في محاولتهم تبرير الربط غير الضروري هذا حاول بعض الناطقين بلسان اليسار أن يشرحوا بان التطلع الى العدالة الانسانية العامة هو القاسم المشترك. فهم يطالبون بالعدالة داخل المجتمع الاسرائيلي وواثقون بأنهم لن يتمكنوا من تحقيقها اذا كنا – بزعمهم – نظلم "عرب بلاد اسرائيل". وحتى شعارات "اخوة الشعوب" أنزلوها من علية السطح، ان لم نقل اخرجوها من القبر. ولم يفهموا انهم بذلك يحكمون على أنفسهم بالسخف. فالجمهور الواعي في معظمه ينظر حواليه، في الشرق الاوسط الجديد، ويقول لنفسه ان اخوة الشعوب لن تكون هنا حتى حين يصل مسيح عدالتنا.
لقد كذب اليسار الصهيوني على ذاته في السنوات المئة الاخيرة، ووعد بان العرب سيفهمون أي تقدم وأي ثراء وأي سعادة جلبت لهم الحركة الوطنية اليهودية، أي الصهيونية. ولهذا فسيسلم بنا العرب وسنعيش في تعايش مزدهر. الفكرة نفسها غير سيئة، باستثناء أنها مفصلة على المقاييس المتوسطة للانسان، بل اقل من ذلك، للانسان العربي. تماما مثل الكيبوتس: فكرة جيدة ولكنها غير مناسبة لمعظم الناس. وبعد أن اصطدموا المرة تلو الاخرى بالواقع النازف للحرب بحثوا عن مذنبين.
بدلاً من اتهام نظريتهم الغبية، او العدو العربي، فضل اليسار الاسرائيلي على انوعه ان يبحث عن الذنب بيننا، في اليهود او في اليهودية، في الصهاينة أو في الصهيونية، في اليمينيين او في المستوطنات. وهنا يجري امام ناظرينا نوع من الانفجار الذي يفكك اليسار الى الف جزيء تائه، يسعى الى ايجاد السبيل والهوية. فعلى ماذا نتنازل أولا كي نحظى بمحبة العرب وبالسلام الخالد؟
شطب الهوية
ثمة في اليسار الاسرائيلي من لا يزال يتمسك بما تبقى لديه من قوة بهويته اليهودية والصهيونية. وهم يدعون بانه بالذات من أجل الحفاظ على الهوية اليهودية لاسرائيل علينا أن "ننفصل" عن "يهودا" و"السامرة". وقد جندت الحجة الديمغرافية لاخفاء الثقب الهائل المتبقي عندما تفجرت في وجهنا كذبة "الارض مقابل السلام". وهم لا يعرفون بالطبع ما هي تلك "الهوية اليهودية" للدولة، وتثير الحجة الديمغرافية الخوف من ان يكون يختبئ خلف هذا المطلب عنصرية لاذعة.
يريدون كروموسومات يهودية اكثر من الكروموسومات العربية. وهم بالطبع لا يتحدثون عن هوية يهودية دينية للدولة. وبالتالي، فانهم يجمعون من كتاباتنا المقدسة 3 – 4 تعليمات عمومية: "وأحب لاخيك كما تحب لنفسك". "الساكن، اليتيم، والارملة لا تظلم"، "وضع السيف في الغمد" وغيرها من قواعد الاخلاق الانسانية العامة والتطلعات السامية التي يمكنها ان تعرف السويد مثلما تعرف نيوزيلندا ايضا. لا شيء يميز دولة اسرائيل كدولة يهودية بالذات تجده هنا، ورغم ذلك فانهم بالطبع يلقون عبارات لاذعة من افواه باقي رجال اليسار، ممن تخرب مجرد حقيقة انه لا يزال يوجد يسار صهيوني في البلاد عقولهم تماما. إذ ان الدليل الحقيقي على المرض النفسي يجد تعبيره في الحاجة العميقة الى شطب الهوية. واختراع هوية جديدة.
في سلسلة مقالات على صفحات "هآرتس" كتب مؤخرا روغل الفر مع تامر نفار. ما الذي لم يكن مستعدا ليعطيه له فقط كي يحبه العربي ويوافق على ان يخلق معه هوية جديدة، "اسرائيلية"؟ فقد تخلى عن تعريف اسرائيل كدولة يهودية، تخلى عن قانون العودة، ندم على "جرائم آبائه واجداده" تجاه العرب.
من السهل دحر الفر الى هامش هوامش اليسار المتطرف، في الجانب الاقصى من الخريطة. ولكنه على الخريطة. على الرصيف. تماما مثل أبرهام بورغ، الذي كان رئيس الكنيست ورئيس الهستدروت الصهيونية واليوم يصوت للقائمة العربية المشتركة ويعرف نفسه كمناهض للصهيونية. من اللحظة التي يعترف فيها احد ما بحق العرب في دولة في البلاد، لا تعود هناك حجة منطقية واحدة تمنعه من الوصول الى محاولات الانتحار الوطني على نمط الفر وبورغ.
كثيرون جدا يتوقفون قبل هذا، ولكن حججهم متهالكة، هزيلة، مصاب بـ"الجدوى" او بالخوف مما سيفعله العرب اذا تمكنوا من القوة. اولئك االيستريون المبررات الامنية وحدها لا تزال تبقيهم في خانة الصهيونية. وهم يفهمون بانه بدون هذا المبرر الايديولوجي سيصبحون مجرد سطاة. وهم يتمسكون به كما يتمسك المرء بقشة، رغم أنهم يعرفون في أعماق قلوبهم بانه في اللحظة التي اعترفوا فيها بحق العرب في دولة في "بلاد اسرائيل" فقد تنازلوا عن حجة حقنا في البلاد. إذ ان حق تقرير المصير يؤخذ لجماعة من الناس يعرفونها ويعرفون حدودها. ونحن، ما العمل، لا نوجد على خريطة العرب.
آخرون، مثل اوري افنيري، بدؤوا يخشون من أن اعدادا كبيرة جدا قد سممت على مدى السنين بالسم المناهض لإسرائيل، المناهض للصهيونية؛ تماما كما كان قلمهم روج، وهم ببساطة ينهضون ويغادرون الى برلين مثلا. برلين كمثال. وهم ينهضون ليدعوهم للعودة الى البلاد كي ... يكافحوا هنا "الاحتلال"، اليأس النابع من "حكم اليمين"، و"الفاشية المتعاظمة". لقد تمكن افنيري من الفهم – بعد أن قطعه اليسار من جذوره الصهيونية واليهودية – بانه لم يعد ثمة ما يمسك به في البلاد. وبعد قليل لن يكون لليسار جنود.
ان المسيرة التي يمر بها اليسار الاسرائيلي المتقلص باستمرار امام ناظرينا مشجعة، والتي تبدأ بفقدان الايمان بعدالة الطريق. "إذن قال الشيطان"، كتب نتان الترمان "غاب عقله ونسي ان معه الحق". لستُ واثقا بانه يوجد شيطان في العالم، ولكن اذا كان موجودا فان وضع اليسار الاسرائيلي اليوم هو أحد البراهين على وجوده.