أقرت اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون ما يسمى بـ "أرشيف الدولة"، في الأيام القليلة الماضية، توصية المخابرات العامة، ووزارتي الحرب والخارجية، بتمديد فرض السرية التامة على كل الوثائق المتعلقة بجرائم تهجير الشعب الفلسطيني من وطنه في العام 1948 وما قبله وبعده. ورغم أننا نعرف الكثير عما ارتكب من جرائم ضد الانسانية في تلك المرحلة، إلا أنه لا بد أن لدى إسرائيل ما لا نعرفه بعد، ولهذا فإنها تريد استمرار التعتيم عليه إلى أجل غير مسمى.
وقد جاء في توصية وزارتي الحرب والخارجية، أن هناك خوفا من أن الكشف عن تلك الوثائق "سيمس بأمن الدولة وبعلاقاتها الخارجية". وتناول قرار وزارة الخارجية مكانة إسرائيل الدولية وتأثير النشر على المفاوضات المستقبلية مع الجانب الفلسطيني، أو على قرارات مؤسسات الأمم المتحدة المتعلقة بمسألة اللاجئين.
رواية النكبة تم توثيقها فلسطينيا على مراحل، مع مرور السنين، وكله مبني على روايات وشهادات الذين عايشوا تلك المرحلة. ورأينا أن عددا من المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، تم الكشف عنها بعد مرور سنين طويلة؛ إذ إن الظروف التي وقعت فيها لم تسمح بالكشف عنها حال وقوعها. كما أن وقوع مجازر ضخمة مثل دير ياسين، ساهم في التقليل من شأن مجازر وجرائم أخرى، كانت أقل من حيث عدد الضحايا، رغم أن إجمالي المجازر التي ارتكبت، هو أضعاف أضعاف ما ارتكب في دير ياسين وحدها.
كذلك فإن أعداد الشهداء، ضحايا تلك المجازر والجرائم، يبقى في إطار التقديرات، إذ إن الوصول إلى أرقام أكثر دقة، يبقى صعبا للغاية، لأن هناك عائلات أبيدت كليا، ولم يوجد من يبلغ عنها؛ أو بسبب ظروف أخرى، لم تصل إلى الرأي العام.
تواصل الصهيونية الادعاء بأن عصاباتها لم ترتكب جرائم تهجير، بل إن الفلسطينيين كانوا يرحلون خوفا، والسؤال المباشر الذي يطرح نفسه: "خوفا من ماذا في تلك المرحلة؟". ولكن الصهيونية ذاتها ليست على قناعة بأكذوبتها، فمجرد الإصرار على مواصلة فرض السرية، والقول إن الكشف عن تلك الوثائق "سيضر بأمن إسرائيل وبعلاقاتها الخارجية"، يفنّد بحد ذاته مزاعم الصهيونية أمام العالم.
وأكثر من هذا، فإن عددا ليس بقليل من جرائم عصابات الصهيونية الإرهابية كشف عنها باحثون يهود، وأبرزهم الباحث التقدمي تيدي كاتس، الذي أعد رسالة الماجستير حول مجزرة الطنطورة، وأحضر الكثير مما هو جديد. وقد أشرف على تلك الرسالة، المؤرخ التقدمي الدكتور إيلان بابي، المهتم بقضايا اللاجئين، وهو نصير حق العودة.
وفي حين أن الأكاديمية الإسرائيلية رفضت رسالة الماجستير هذه، فإن الدكتور بابي، الذي بادر واشتغل في الكثير من المؤتمرات لمناصرة حق العودة، حوصر في السلك الأكاديمي الإسرائيلي، وتم حرمانه من لقب بروفيسور، ما دفعه للعمل في الخارج. وكان الدكتور بابي، قال حينها لـ "الغد"، عن الأكاديمية الإسرائيلية، والمؤسسة الحاكمة، "إنهم يريدون حجب الحقيقة عن الجمهور الإسرائيلي، لا يردونه أن يعلم عن جرائمهم التي ارتكبوها في عام النكبة".
كذلك ظهر على مر السنين، العديد من الأشخاص الذين كانوا في مرحلة النكبة عناصر ضمن العصابات الصهيونية، وبعد سنوات كانت لديهم صحوة ضمير، ليكشفوا عما اقترفوه في تلك المرحلة، مثل تهجير وتفجير بيوت، وغيرها.
اللافت أكثر في القرار الإسرائيلي، هو أن إسرائيل تعي تماما حصانتها من أي ملاحقات دولية لها، بفعل دعم حلفائها في العالم، وأولهم الولايات المتحدة الأميركية. فإسرائيل التي نجحت بدعم حلفائها بدفن تقرير "غولدستون"، عن حربها العدوانية على قطاع غزة في مطلع العام 2009، من المفروض أن لا يكون لديها أي قلق من كشف الوثائق اليوم. إلا أنه كما يبدو فإن المستور أكبر مما نتخيله، أو أن هدف إسرائيل من هذا التستر، هو عدم تشويش "صورة الصهيونية الجميلة"، أمام أجيال اليهود الناشئة، وبالأساس تلك التي هي خارج إسرائيل، خاصة أن أكثر من 50 % من هذه الأجيال، تبتعد عن المؤسسات الصهيونية واليهودية، وفق تقارير المعاهد الصهيونية ذاتها.
عن الغد الاردنية