ربيع بلا ديمقراطية

د.عاطف أبو سيف
حجم الخط

ربما سيقال لاحقاً إنه كان من الخطأ إطلاق تعبير "ربيع" على ما كان يجري- وما زال- في المنطقة العربية، إذ تم الظن أن المنطقة تشهد عمليات تحول ديمقراطي ستقود في النهاية إلى سقوط الطغاة، وبالتالي إلى حكم الشعب، واللجوء إلى التبادل السلمي للسلطات. وشجع على ذلك نجاح الضغط الشعبي خاصة في تونس ومصر في إجبار الرؤساء السابقين على التنحي لصالح ترتيبات مؤقتة إلى حين إجراء انتخابات يختار عبرها الشعب من يمثله ويقوده. وكانت جرعات التفاؤل المفرطة تتغذي بالخبرات السابقة التي نجحت فيها شعوب كثيرة بإسقاط النظم الشمولية واستعادة زمام المبادرة والتحول إلى دول ديمقراطية. تجارب مثل تلك التي حدثت في أميركيا اللاتينية في سبعينيات القرن العشرين وتلك التي شملت بلدان وسط وشرق أوروبا في تسعينيات القرن ذاته بعد سقوط جدار برلين. موجات الدمقرطة وفق تصنيفات صموئيل هنتنغتون وصلت إلى الشواطئ العربية.
قد تكون وصلت لكن الديمقراطية لم تصل. إن مراجعة سريعة لحال الأمة العربية ببلدانها التي هبت عليها رياح التغير المفترضة – مع القليل من التفاؤل- ستقول لنا إن ما حدث فيها لم يكن يتعدى الصراع المحموم على السلطة الذي لم يكن استحضار الديمقراطية والنقاش الديمقراطي فيه أكثر من محاولات لشرعنة هذا الصراع، دون أن يعني هذا أن الجماهير الغفيرة التي خرجت في الشوارع في البداية لم تكن تتقصد فعلاً التخلص من ربق عبودية الأنظمة والتوق إلى أن تنعم بحياة كريمة. المؤكد أن الشبان والشابات الذين اندفعوا نحو الموت كان يريدون الحياة التي حرمتهم منها بساطير الطغاة، وكانوا ينشدون طريقة أخرى للحياة لم ينعموا بها من قبل، وكانوا يرونها في التلفاز والسينما. والشعارات الجميلة التي رفعوها كانوا صادقين فيها قبل أن يتم سرقتها وتحريفها حتى تحول الأمر إلى صراع دموي على السلطة قاد في الكثير من الحالات إلى تفكيك الدولة والعودة إلى مرحلة ما قبل الدولة حيث تطغى الصراعات الإثنية والطائفية والمذهبية والمناطقية ناهيك عن استحضار القبيلة التي لم تمت بالطبع في رحم الدولة المدنية الحديثة التي زعمت النظم الشمولية التي نشأت بعد تفكك الاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين أنها كانت تبني فيها.
ما حدث هو انكشاف عورة الدولة الوطنية العربية التي لم تكن موجودة في الكثير من الحالات – باستثناء البني المؤسساتية الموجودة ربما في مصر- وتعرض المجتمع إلى رياح عاصفة من القبلية والجهوية والطائفية لم تنتهِ في السابق ولكن كان يتم تغطيتها بأردية وأثواب مزركشة حول الدولة وقوة الدولة وعمقها ومقدرتها على صهر المجتمع في بوتقة واحدة.
والأمر كذلك فقد انهارت الدولة في حالات كثيرة وتفككت وظهرت على السطح طفيليات سياسية كانت رابضة في أمعاء المؤسسة الرسمية أو على هامشها، لكنها سرعان ما سيطرت على الخطاب ونجحت في صياغة توجهات قطاعات واسعة من أنصارها القدماء أو الجدد.
وفي حالات كثيرة ترافق هذا مع تدخلات خارجية قصدت إلى تمزيق الدولة وهدفت إلى القضاء على وحدة حالها المنهارة أصلاً، بل إن بعض دول الربيع العربي المفترض صارت ساحة للصراع الإقليمي والدولي ليس على النفوذ وليس على النفط ولا الثروات بل على مجرد الصراع الذي هدفت أطراف كثيرة منه القضاء على الدولة كفكرة وتفكيكها إلى دويلات ومناطق نفوذ مختلفة قد تتطور إلى أقاليم تتحول بدورها إلى دول أمر واقع، وبالتالي تشتيت التوجهات القومية واستنزاف الجهود العامة في القتال والقتال الذي لا ينتهي بل يتجدد، ويتحول إلى قتال لمجرد القتال.
مثلاً ما حدث في سورية لم يكن صراعاً على الديمقراطية ولا من أجلها. لا يفهم أحد لماذا تم فوراً تشكيل الجيوش والجماعات المسلحة وبدأت دول إقليمية ودولية بضخ السلاح الخفيف والثقيل من أجل أن تندلع معارك مستمرة منذ خمس سنوات.
للأسف ما نجم لم يكن تشكل فرق من مقاتلي الحرية الباحثين عن الشمس في ظلام الغابات الكثيفة التي صنعها الطغاة من الظلم والقهر والتنكيل؛ بل جيوش مسلحة انتهكت من الحريات والحقوق أكثر مما انتهكت النظم القمعية، وتنافست معها أكثر على سلب المواطنين حرياتهم.
لم يكن صعود "داعش" والممارسات المهينة بحق الشخصية العربية وهويتها القومية والإسلامية وليد صدفة، ومن المحزن أن تكون تطوراً طبيعياً لحالة استغلال الديمقراطية والبحث عنها من أجل الركون إلى الهويات الفرعية واستحضار التعريفات الجانبية للشخصية التي يكون اللجوء إلى التاريخ أكثر مساربها عمقاً وجاذبية في حالات كثيرة.
لم يكن الأمر مجرد تفكيك للدولة الوطنية والعودة بمكونات الدولة إلى مرحلة ما قبل الدولة، بل كان ثمة تقصد إلى تشوية صورة المجتمعات وتوليد طاقات سلبية تناحرية داخل مكونات المجتمع تجعل العودة إلى مرحلة الدولة الوطنية – لنضع جانباً الدولة القومية- أمراً مستحيلاً لأنه سيحتاج إلى عقود من عمليات الشفاء والتجميل وتطهير الجراح.
ولم يكن الأمر ليختلف كثيراً في اليمن التي باتت ساحة صراع سني شيعي، وصراع نفوذ بين الدول العربية المجاورة وإيران.
وبغض النظر أين يقف أحدنا من الصراع، إلا أن ما جري هو أن اليمن بحاجة لسنوات وسنوات قبل أن تعود إلى حالتها السابقة لهبوب رياح الربيع المفترض.
صحيح أن اليمن لم يكن يوماً موحداً بالشكل المطلوب وأن هياكل ومؤسسات الدولة لم تكن بالقوة التي تجعلها تحتكر مصادر العنف وفق تعريف الاجتماع السياسي، إلا أنها كانت رغم ذلك قادرة على أن تحتكر تمثيل الجماعة البشرية وتعكس قدرة على السيادة في عالم تتآكل فيه السيادة بشكل عام. والأمر ليس بعيداً في ذلك عن ليبيا التي حولها الصراع إلى اقتتال بين جنرالات بدلاً من صراع بين المواطنين والطغاة على الحرية.
بعبارة سريعة فإن الديمقراطية سقطت شهيدة تحت بساطير الطغاة الجدد.