روت إحدى الصحفيات الأجنبيات اللاتي شهدن الحرب على أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر2001م موقفًا جرى لها في بدايات عملها هناك، وكان له تأثير عظيم هزَّ كيانها، وغيَّر مشاعرها وقناعتها في لحظاتٍ من النقيض إلى النقيض، حيث تقول: رأيت رجالًا من الأفغان والنساء يمشين وراءهم بمسافة لا تقل عن خمسة أمتار، فأردت أن أقتنصها فرصة لإظهار حجم المذلة والمهانة التي يتعرض لها النساء في أفغانستان، وما يعانينه من تخلف الرجال ورجعيتهم، وازدرائهم لمكانة المرأة. فالتقطت صورة لهذا المشهد، ثم أردت أن أجري معهن حوارًا بطريقة لبقة أحرِّضهن فيه على رفض هذه الإهانة والتبعية للرجل، فبدأتهن بالسؤال مُتلطِّفة: لماذا تمشين خلف الرجال؟ فقلن الإجابة التي أذهلتني وأفحمتني، لقد قلن في سهولة أوضحتْ لي كم أنا ساذجة، وكم هن محظوظات بأزواجهن: إنهم يمشون أمامنا ليستكشفوا الطريق، فإذا كان آمنًا فنحن آمنات خلفهم، وإذا كان خطرًا أو تعرضوا لإطلاق نار، نكون نحن أخذنا الفرصة للفرار والنجاة بأنفسنا؛ فأزواجنا لا يريدوننا أن نتعرض للأخطار جميعًا؛ فتضيع الأسرة كلها.
لندع هذا الموقف جانبًا، لعل البعض يقول: إن هذه طرفة لطيفة، أو هذا وضع حربٍ لا ينبغي استثماره في تعميم حكم معين، أو إظهار مَزيَّةٍ ما في قوامة الرجل على المرأة، ولنذكرأن قوامة الرجل على المرأة ـ التي كانت موجودة قبل الإسلام في كل الشعوب والمجتمعات، إلا حالات نادرة لا يمكن الحديث عنها، باعتبارها وضعا ثابتًا مستقرًّا توافَق الناس على صلاحيته واستمراره ـ هي تكليف وأمانة توضع بموجبها زوجته في موضع السيدة المصونة التي يكون هو المسؤول الأول فيه عن إسعادها وتوفير كل ما يقدر عليه من وسائل الراحة والأمان والترفيه لها ـ ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ـ وأن هذه المرأة نفسها تكون هي الأخرى قوَّامة على إدارة شؤون البيت والأولاد في غالبية الوقت.
وأحيانًا تكون قوامتها عليهما بشكل مطلق وكامل إذا كان الزوج غائبًا عن البيت لعمل أو سفر أو خلافه. وهذه المسؤولية هي تكليف وأمانة أيضًا من الله، وهي كذلك من أعراف وتقاليد غالبية المجتمعات القديمة والحديثة، والتي استقرت على ذلك، وإن لم تكن تدين بالإسلام.
كم من مرة إذن سمعتِ امرأة تشكو من ضيقها وتبرُّمها وضجرها الدائم والمرير من هذه المسؤولية عن أولادها الصغار، حتى إن بعض الجُمَل والعبارات التي أضحت محفوظة في حياتنا اليومية هي قول بعض الأمهات لأطفالهن حين يُتعِبْنَهنَّ، أو تصيبهن الآلام من خدمتهم وكثرة ما يلقينه من العَناء: وهل اشتراني أبوكم خادمة لكم؟ أو تقول في ضيق وتبرُّم: هل أنا الخدَّامة التي اشتراها لكم أبوكم!
إذن ها أنت ترين القوامة على الأولاد وشؤون البيت ليست بالمسؤولية الهينة، أو التكليف الذي يمنحك مكانة رفيعة ومنزلة سامقة، بقدر ما يتطلب منك جهدًا وتعبًا وإرهاقًا، وقرارات سريعة أحيانًا، وحاسمة أحيانًا، وصعبة ومؤلمة أحيانًا أخرى، ولو كان الأمر بيدك في بعض الأحيان لتنازلت طواعية عن هذه الأمانة وهذا التكليف رغبة في الراحة، أو حتى تأخذين هُدنة تلتقطين فيها أنفاسك، أو تستعيدين فيها شعورك بأناقتك الروحية والوجدانية التي كنت تُحسِّينها قبل هذه المسؤولية؛ إذ غدوت الآن مسؤولة عن الرعاية والعناية الدائمة، وحل المشكلات، والتدليل حينًا، والتربية حينًا آخر، وتصيبين في ذلك في أوقات كثيرة، وتخطئين أحيانًا، فهل إذا أخطأت يكون الحل أن يأتي زوجك ويقول: ارفعي قوامتك عن بيتي وأطفالي في غيابي، أو لا سلطة لك على البيت والأولاد مطلقًا؟
هل هذا الزوج يعالج مشكلة هنا أم يخلق سيلًا لا نهاية له من المشكلات؟ لكِ أن تتخيلي ماذا يمكن أن يفعل الأولاد بك أو بالمنزل أو بأنفسهم من الكوارث والأخطار إذا تُرك الأمر هكذا بلا رابط ولا ضابط؟ لقد اتخذ الأب هذا القرار نتيجة خطأٍ ما، ارتكبتُه زوجته، فأراح نفسه، ونفَّس عن انفعاله وغضبه، ولكنَّ كلَّ مَن كانت له قدرة على التمييز، أو بقية من عقل يدرك أن هذا الأب قد ارتكب خطأ أبشع وأفظع بمراحل من أي خطأ يمكن أن تكون أمُّ أطفاله؛ أي زوجته، قد فعلته، وأن الحل كان يكمن بسهولة شديدة في علاج الخطأ الذي وقعت فيه أم أولاده، وبطريقة لبقة ولطيفة تحترم جهودها واجتهادها وأمومتها، وترفع مِن وَعْيها وشعورها بقيمة التَّبعة المُلقاة على عاتقها، وتكون مُعينًا لها في قابل الأيام على المزيد من الحرص والاجتهاد في تحسين تربيتهم، ونموذجًا يعطيه الأب من نفسه على كيفية علاج الأخطاء التي لا فكاك منها، فكل ابن آدم خطاء، والمهم هو كيفية التعامل مع الخطأ، والاستفادة منه في تصحيح المسار، فخير الخطائين التوابون.
إذن فاستغلال بعض الناس للتصرفات غير المسؤولة التي يقوم بها بعض الأزواج تجاه زوجاتهم؛ ليطالب بهدم مفهوم قوامة الرجل على المرأة، هو ليس فقط جريمة في حق الرجل، بل في حق المرأة قبل ذلك، وفي حق البيوت المستقرة الآمنة الهادئة، تستهدف هذه الجريمة إذكاء مشاعر الغضب لدى النساء، وتحويل البيوت إلى ساحات صراعات على كل قرار، وكل تصرف، وكل موقف جديد يواجهه الزوجان، وهذه الجريمة معروف سلفًا نتائجها قبل أن يولد أجدادنا، ومن منطق الفطرة السليمة قبل أن يكون منطق الالتزام بتعاليم دين معين، فقد قالت الحكمة التي تعرفها البشرية جميعا: «المركب التي لها رئيسان تغرق».
فهل دريتم أنتم يا من تطالبون بإلغاء قوامة الرجل في بيته وعلى زوجته، أنكم تريدون إغراق سفينة الزوجية، تريدون نقض الميثاق الغليظ بينهما، تريدون ضياع أبنائنا وبناتنا؟
لا نسأل بمنطق الشريعة، فإنا نعلم أن البعض لا يحترم شرعًا ولا دينًا، ودينهم هو ما تستحسنه أهواؤههم ومصالحهم، ولكن نسألكم ونسأل مَن رضي أن يسمعكم: هل علمتم أن سفينة أو طائرة وضعوا في قوانين قيادتها أن يكون المسؤول الأول عن قيادتها شخصين لهما نفس المسؤوليات والصلاحيات في اللحظة نفسها؟ وهل رأيتم دولة مهما بلغت من الحرية والتطور والتقدم قد اختارت رئيسين لها ليحكموها في الوقت نفسه، وبذات الصلاحيات والسلطات لكليهما؟
ربما وجدتم إجابة تسوغون بها دعواتكم الهدامة، لكن ما أحب أن أنوِّه به من باب الإنصاف أن هناك ـ حقًّا ـ مَن يسيئ استخدام قوامته على المرأة، ولهؤلاء كلمة منا: صحيح أن الله قد أعطاكم القوامة على المرأة، لكنه أعطاها لكم تكليفًا لا تشريفًا، وإنكم محاسبون عليها؛ وكلٌّ له جزاء على عمله بحسبه؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، فلا تجعلونا بسوء تصرفاتكم غرضًا وهدفًا لسهام أعداء أمتنا الذين يتربصون بنا، ويستغلون ما تقومون به ـ عن جهل أو هوًى أو تقاليد باطلة ـ من إساءات للمرأة ولمفهوم القوامة؛ لهدم ثابت من ثوابت قيمنا وهويتنا وعقيدتنا.
أما أنتن أيتها الفاضلات الماجدات، فأُذكِّركن حديثًا رائعًا، فعن مجاهد قال: قالت أم سلمة (رضي الله عنها): يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث! فأنزل الله: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}[حديث حسن، رواه أحمد والحاكم]، وقال تعالى: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ" (النساء: 34)، وهذا التمايز أو التفاضل ثابت ومقرر من واقع الحياة الحسية والاجتماعية، ولا ينكره إلا من ينكر حقائق الأمور وطبائع الأشياء، وهو لا يعني أن أحدهما أعلى شأنًا من الآخر، قال تعالى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات:13]، وإنما هذا التمايز يقتصر على صلاحية أيهما لأداء وظائف حياتية وحيوية لا يستطيع الآخر القيام بها، وهي سنة الله في البشر جميعًا، حتى بين الرجال وبعضهم، والنساء وبعضهن.
وختامًا: علينا أن نتذكر جميعًا أننا في السفينة نفسها، ولا نجاة لنا إلا أن نأخذ بأسباب النجاة، وسفينتنا الأقرب هي بيت الزوجية، وإن من أهم أسباب نجاتها ووصولها لبر الأمان ورضا الرحمن، أن نعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "كلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيتِه، فالإمامُ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيتِه، والرجلُ في أهلِه راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيتِه، والمرأةُ في بيتِ زوجِها راعيةٌ، وهي مسؤولةٌ عن رعيتِها، والخادمُ في مالِ سيدِه راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيتِه، فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِه" [متفق عليه].